في أعماق الفكر الإنساني، لطالما راودنا هاجس وجود ذاكرة كونية تحفظ كل ما كان وما سيكون. ذاكرة لا يطويها النسيان، ولا تُطمس فيها أحداث الماضي، بل تُسجَّل فيها كل فكرة، وكل شعور، وكل فعل، لتبقى أبد الدهر شاهدة على قصتنا الكبرى. في الشرق القديم، حملت هذه الفكرة اسماً شاعرياً: "الأكاشا".
أما في الغرب، فقد تحول المفهوم إلى ما عُرف لاحقاً بـ "السجلات الأكاشية"، وهو اسم بات يثير الفضول لدى الباحثين في الروحانيات والباراسيكولوجيا، ويستحضر قصص وسطاء مثل إدغار كايسي، الرجل الذي زعم أنه يقرأ من هذه السجلات أسرار الماضي ويطل على احتمالات المستقبل.
فهل نحن أمام أسطورة روحية ؟ أم أن هناك حقلًا خفياً يختزن ذاكرة الكون ؟ وهل لهذه الفكرة صلة بمعتقدات دينية مثل اللوح المحفوظ في الإسلام، أو "كتاب الحياة" في المسيحية ؟
دعونا نغوص في هذا العالم المثير، حيث تتقاطع الروحانية بالعلم، والأسطورة بالفلسفة.
الأكاشا في الشرق القديم
كلمة Ākāśa في النصوص الهندية القديمة تعني حرفياً "الفضاء" أو "الأثير" ، في الفلسفة الفيدية واليوغية، كان الأكاشا هو العنصر الخامس، الذي يعلو على عناصر الطبيعة الأربعة: التراب ، الماء، النار، والهواء ، اعتُبر الأكاشا الوسط الأرقى الذي تنتقل فيه الاهتزازات الروحية، وفيه تُحفظ آثار كل ما يحدث في العالم ، كأن كل فكرة أو حدث يترك بصمة لا تُمحى، أشبه بموجة تنتشر في بحيرة هادئة ، ومع مرور الزمن، تحولت هذه الرؤية الفلسفية إلى فكرة روحية متكاملة ، الكون ليس مجرد مسرح للأحداث، بل هو ذاكرة حية تحفظ كل ما جرى وكل ما سيجري.
بلافاتسكي والثيوصوفية
في أواخر القرن التاسع عشر، حملت هيلينا بلافاتسكي، مؤسسة الجمعية الثيوصوفية، هذه الفكرة إلى الغرب ، في كتبها مثل العقيدة السرية، تحدثت عن الأكاشا باعتباره المستودع الأعظم لكل معرفة، ووصفت السجلات الأكاشية بأنها "كتاب كوني مفتوح" يمكن للروحانيين الكبار أو المستبصرين قراءته.
لاحقًا، طور تلميذها تشارلز ليدبيتر الفكرة، فشبه الأكاشا بأرشيف أثيري يضم تسجيلاً كاملاً لماضي الأرض ومصيرها، تماماً كفيلم لا نهائي يعرض أمام البصيرة الداخلية ، ثم جاء رودولف شتاينر مؤسس الحركة الأنثروبوصوفية، ليزعم أنه قرأ من هذه السجلات تفاصيل حضارات مفقودة مثل أطلانتس، بل وحتى الأحداث المستقبلية التي لم تقع بعد.
إدغار كايسي: النبي النائم
لكن الاسم الأبرز الذي ارتبط بالسجلات الأكاشية هو بلا شك إدغار كايسي (1877 – 1945) ، كان كايسي وسيطاً روحانياً أمريكياً يدخل في حالة غشية عميقة أشبه بالنوم، ثم يجيب عن أسئلة الناس حول صحتهم أو مصائرهم أو حتى تاريخ البشرية ، وكان يصرح دائماً أن مصدر معلوماته ليس عقله الباطن فقط، بل "السجلات الأكاشية"، التي وصفها بأنها: "مكتبة هائلة تضم تاريخ كل روح منذ بداية الزمن، وكل نية وفعل وفكرة ستظهر لاحقاً" ، كايسي لم يكن مجرد قارئ غامض، فقد ترك آلاف الجلسات المسجلة، وتنبأ فيها بأحداث عالمية مثل انهيار سوق الأسهم عام 1929، ونشوء قوى عظمى مثل الصين ، إلا أن تنبؤاته لم تكن حتمية دائماً، فهو نفسه كان يقول إن المستقبل "احتمالي"، وأن اختيارات البشر قد تغير مسار الأحداث المسجل.
الحاسة الزرقاء للوسطاء المحققين
يُطلق على بعض المحققين النفسيين امتلاكهم لقدرة استثنائية بمصطلح "الحاسة الزرقاء"، وهي قدرة يزعمون من خلالها استشعار أحداث ماضية أو حالية تتعلق بالجرائم ، يُقال إنهم يتصلون بشكل غير واعٍ بـ السجلات الأكاشية، التي تحتوي على كل تفاصيل الجريمة، من هو الفاعل وحتى تسلسل الأحداث ، لكن رغم وجود قصص مثيرة، تبقى هذه الممارسات غير مثبتة علميًا، ولا تُستخدم كأدلة رسمية في التحقيقات الجنائية.
سجلات الماضي أم مفاتيح المستقبل ؟
السجلات الأكاشية - بحسب هذه الفلسفات - ليست مجرد تاريخ ساكن، بل هي أيضاً خريطة احتمالات للمستقبل فالماضي يُحفظ كما هو، أما المستقبل فيُسجل كمسارات متعددة، مثل فروع شجرة، يمكن للإنسان أن يسلك أياً منها بناء على قراراته وأفعاله ، هذا التصور يلتقي بشكل غريب مع أفكار حديثة في فيزياء الكم حول الاحتمالات المتعددة، لكنه يبقى في الإطار الرمزي والروحي، بعيداً عن إثبات علمي مباشر.
الأثير: الوسط الخفي
في الفيزياء القديمة، كان الأثير فكرة أساسية ، تصور العلماء أن الضوء لا بد أن يسافر في وسط خفي، مثلما تنتقل الأمواج في الماء لكن تجربة ميكلسون ومورلي عام 1887 جاءت بنتيجة صادمة: لم يتم العثور على أي أثر للأثير ، ثم أتت نظرية النسبية لأينشتاين لتؤكد أن الضوء لا يحتاج إلى وسط مادي، وأن الفراغ نفسه يحمل خصائص الزمكان ، رغم ذلك، عاد أينشتاين لاحقاً ليقول في محاضرته الشهيرة بجامعة ليدن: "يمكننا أن نتحدث عن الأثير بمعنى بنية الزمكان نفسه، لكن ليس كوسط جامد." ، هذا فتح الباب أمام تأويلات جديدة، فالبعض رأى أن الأثير ربما يكون مجالاً غير مرئي يحمل المعلومات، تماماً كفكرة السجلات الأكاشية، لكن هذا يبقى في إطار الفلسفة لا الفيزياء.
كيف يختزن الكون المعلومات ؟
وفق الرؤية الروحية، كل فكرة أو فعل يترك اهتزازاً أثيرياً يبقى مسجلاً في الأكاشا، كما تترك الموجة أثرها على سطح البحر ، أما من منظور العلم فالمعلومات يمكن أن تُخزن مادياً في المادة والطاقة، لكن لا يوجد دليل على وجود أرشيف شخصي روحي ، ما نملكه حالياً هو نجرد تشبيهات فلسفية أكثر من نماذج تجريبية.
الباراسيكولوجيا: نافذة صغيرة على المجهول
في مجال الباراسيكولوجيا، أُجريت تجارب مثل اختبار غانزفيلد لدراسة الإدراك الفائق للحواس (ESP) كـ التخاطر والاستبصار، بعض النتائج أظهرت نسبة نجاح أعلى من المصادفة، مما دفع بعض الباحثين لاعتبارها مؤشراً على وجود نوع من تبادل المعلومات غير المرئي ، لكن المجتمع العلمي بقي منقسماً: فهناك من يرى هذه النتائج ضعيفة وغير قابلة للتكرار، وهناك من يعتبرها خيوطاً أولية لفهم ظواهر مثل "قراءة الأكاشية".
العلم الحديث: الحقول والهولوغرام
- طرح رفين لازلو فكرة "الحقل الأكاشي" كامتداد لمفاهيم الفراغ الكمومي، واعتبره خزاناً للمعلومات الكونية.
- تحدث ديفيد بوم عن "الترتيب الضمني"، حيث يكون الكون مترابطاً كنسيج هولوغرام، بحيث يحتوي كل جزء على معلومات عن الكل.
- المبدأ الهولوغرافي في الفيزياء النظرية يشير إلى أن المعلومات عن أي حجم من الفضاء يمكن أن تُشفر على سطحه.
رغم أن هذه الأفكار ملهمة، إلا أنها لا تثبت وجود "سجل روحي" للماضي والمستقبل، بل هي نماذج رياضية ومفاهيم فيزيائية يجري إسقاط تصورات ميتافيزيقية عليها.
سجلات مشابهة للأقدار في الأديان والثقافات
هل الأكاشية هي مجرد نسخة شرقية من فكرة عالمية أقدم ؟ في ثقافات مختلفة نجد تصورات مشابهة:
في ميثولوجيا بلاد الرافدين
نجد "ألواح الأقدار" أو Tablets of Destinies كانت رموزاً أسطورية تحدد مصائر البشر والآلهة، وليست مجرد أدوات مادية. هذه الألواح لم تكن "سجلات" بالمعنى الحرفي، بل رمزاً لسلطة إلهية مطلقة.
في الميثولوجيا اليونانية
نجد المويراي Moirai أو العرافات الثلاث يتحكمن في قدر كل إنسان: كلوثو تغزل خيط الحياة عند الولادة ، لاخيسيس تحدد طوله ومسار الأحداث، أتروبس تقطع الخيط عند الموت. يمثلن حتمية القدر الذي لا يغيره بشر ولا حتى الآلهة، والخيط رمز لمسار الحياة من البداية حتى النهاية.
في المسيحية واليهودية
ُذكر مفهوم "كتاب الحياة"، وهو سجل رمزي يُعتقد أنه يحتوي على أسماء الأبرار الذين سينالون الخلاص والنعيم الأبدي ، يظهر في سفر الرؤيا في العهد الجديد، حيث يُقال إن من لم يُكتب اسمه فيه سيُدان ويُطرَح في "بحيرة النار" ، في التقاليد اليهودية، يرتبط هذا الكتاب بمواسم التوبة مثل يوم كيبور، حيث يُرجى أن تُكتب أسماء التائبين فيه للسنة الجديدة ، يختلف عن السجلات الأكاشية في أنه لا يسجل كل تفاصيل الحياة، بل يركّز على الانتماء الروحي والخلاص فقط، وهو مرتبط بالمحاكمة النهائية لا بالماضي والمستقبل.
في الإسلام
نجد أمراً مشابهاً لكنه غير متطابق وهي فكرة اللوح المحفوظ ، سجل إلهي كامل للأقدار لا يتغير، لكنه محجوب عن البشر ولا يمكن النفاذ إليه، الفرق الجوهري هنا أن السجلات الأكاشية مفتوحة لمن يملك القدرة الروحية، بينما في الإسلام تبقى المعرفة بالغيب مطلقة لله وحده.
القرآن الكريم يُخبرنا الله أن كل إنسان سيُحاسب على أعماله، وسيتسلم كتاباً يحتوي على جميع ما قام به في حياته:
- الأبرار والصالحون يتسلمونه بيمينهم، فيكون ذلك علامة على النجاة والرضا.
- الكافرون والعصاة يتسلمونه من وراء ظهورهم ، في مشهد يعكس الخزي والهلاك.
قال تعالى:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 7-8]
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾ [الانشقاق: 10-11]
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 7-8]
﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾ [الانشقاق: 10-11]
هذه الكتب تمثل السجل الكامل لكل صغيرة وكبيرة في حياة الإنسان، تشبه من حيث الفكرة "ذاكرة كونية" تحفظ كل الأفعال، لكنها تختلف جذرياً عن الأكاشا في أن البشر لا يطلًعون عليها إلا يوم الحساب، ولا يمكنهم تغيير محتواها بعد موتهم.
- طوال حياة الإنسان، يُوكل الله به ملكان يسجلان كل أفعاله وأقواله: الملك الذي على اليمين: يكتب الأعمال الصالحة والحسنات ، الملك الذي على الشمال: يكتب الأعمال السيئة والسيئات ، قال تعالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 17-18]
هذه الصورة تعكس أن حياة الإنسان توثق لحظة بلحظة، بحيث لا يضيع منها أي تفصيل، وهو ما يشبه على نحو رمزي فكرة السجلات الأكاشية التي تُخزن كل حدث وفكرة، لكن الفرق الجوهري أن هذه السجلات في الإسلام مخصصة لأعمال البشر الفردية وتتم تحت إشراف ملائكي إلهي، وليس حقلًا مفتوحاً يمكن لأي شخص النفاذ إليه.
بين الإيمان والعلم
السجلات الأكاشية هي فكرة تقع على الحدود بين الروحانيات والفلسفة والعلم ، قد تراها رمزاً شعرياً يعبّر عن ترابط كل شيء في الكون، أو حقلاً حقيقياً يمكن للبعض قراءته ، أما العلم الحديث، فلا يقدم حالياً أي دليل مادي على وجودها، رغم أنه يطرح مفاهيم ملهمة مثل الفراغ الكمومي والمبدأ الهولوغرافي ، ربما تكون الأكاشية في النهاية مرآة لوعينا الجماعي، تعكس شوق الإنسان لمعرفة مصيره، ورغبته في أن يترك أثراً لا يُمحى في ذاكرة الوجود.
عندما نجلس في لحظة صمت ونسترجع ذكرياتنا، نشعر كأن الماضي لم يمت أبداً ، فهل من المستحيل أن يكون للكون ذاكرته الخاصة ؟
ربما لا نملك الجواب الآن، لكن فكرة السجلات الأكاشية تذكرنا بأن أفعالنا وأفكارنا قد تكون أصداء باقية في نسيج هذا الكون، وأننا نكتب - بوعي أو بدونه - قصتنا على صفحات كتاب أكبر بكثير مما نتخيل.
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .