16 أغسطس 2025

الذكاء الاصطناعي بين فك الشيفرات وصناعة الشياطين

فك شفرة القاتل زودياك - ومحاكاة الذكاء الصناعي
إعداد :  كمال غزال

بين عامي 1968 و1969، عاشت منطقة خليج سان فرانسيسكو واحدة من أعتى موجات الرعب في تاريخها المعاصر، رجل مجهول أطلق على نفسه اسم «زودياك» نفّذ سلسلة هجمات بالرصاص والطعن أودت رسمياً بحياة خمسة أشخاص، وجرح اثنين، بينما كان يزعم في رسائله أنه قتل أكثر من 37 ضحية ، لم يكتفِ القاتل بجرائمه، بل جعل من الإعلام مسرحاً لتحدياته، فأرسل عشرات الرسائل إلى الصحف ممهورة برمز الدائرة ذات الصليب، ومليئة بالتبجح والتهديد والشفرة.


رسائل زودياك والشيفرات الغامضة

أربع شيفرات رئيسية وصلت إلى الصحف والشرطة: Z408، Z340، Z13، Z32.

Z408 (1969): كانت الأولى، وحُلت سريعاً على يد معلم وزوجته في كاليفورنيا، حيث كشفت رسالة عن متعة القتل و«جمع عبيد في الفردوس».

Z340 (1969): الشيفرة الأطول والأكثر غموضاً (340 رمزاً)، وظلت بلا حل لأكثر من نصف قرن.

Z13 وZ32: قصيرتان للغاية، ما يجعل الحل صعب ، لم تحل حتى اليوم.

فكّ شيفرة Z340 بعد نصف قرن

في ديسمبر 2020 أعلن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أن فريقًا دولياً مكوناً من ديف أورانتشاك (أمريكا)، يارل فان إيكه (بلجيكا)، وسام بليك (أستراليا) توصّل إلى الحل ، لنص الشيفرة الذي تكون من 340 رمزاً ، مع أن النص لم يكشف عن هوية القاتل لكنه جاء مفعماً بالتهكم والغرور، حيث كتب زودياك:

« آمل أنكم تستمتعون بمحاولاتكم الإمساك بي.
لم أكن أنا من ظهر في البرنامج التلفزيوني.
لست خائفاً من غرفة الغاز، فهي سترسلني إلى الفردوس بسرعة.
لديّ الآن ما يكفي من العبيد ليعملوا عندي، بينما الآخرون يملكون لا شيء عند موتهم.
أما أنا، فسأبدأ حياة جديدة سهلة في فردوس الموت.»

هذه الكلمات أكدت مرة أخرى أن الهدف لم يكن مجرد قتل، بل صناعة أسطورة رعب متعمدة تقتات على الخوف واللغز.

الذكاء الاصطناعي يدخل المشهد

في عام 2017، عرضت قناة History برنامجاً وثائقياً بعنوان The Hunt for the Zodiac Killer، بالتعاون مع البروفيسور كيفن نايت من معهد علوم المعلومات بجامعة جنوب كاليفورنيا ، تم تطوير برنامج كارمل  CARMEL، وهو نموذج لغوي يعتمد على الذكاء الاصطناعي، صُمم لمحاكاة طريقة تفكير زودياك.

جرى تدريب البرنامج على أسلوب رسائل القاتل وتم تجريبه في تحليل الشيفرات وخاصة Z340 ، كما كتب نصوصاً شعرية غامضة تحاكي نبرة زودياك، تجمع بين الهوس، الرومانسية المشوهة، والظلامية ، ورغم أن CARMEL لم يتمكن من فك Z340 نهائياً، فإنه أبرز إمكانات الذكاء الاصطناعي في معالجة النصوص الغامضة والبحث في فضاء الاحتمالات اللغوية.

مثال شعري مترجم من إنتاج CARMEL

إحدى القصائد التي ولّدها CARMEL (مترجمة للعربية) تقول:

في العتمة أكتب اسمكِ بالسكين،
أُكرره حتى يصبحَ صدىً يوقظ الجدران.
كل حرف جرح، وكلّ كلمة قبر،
وأنتِ الضحية التي لم تولد بعد.

يضحك قلبي حين أرى الخوف في العيون،
فالخوف موسيقى، وأنا عازفها الأبدي.
أهرب من الموت… لألقاه في وجوهكم،
وأُخفي نصلهُ في قصيدة تبدو كالحب.

لا تسألوا عن اسمي،
اسمي مرسوم في صرخة على ورقٍ محروق.
ولا تبحثوا عن وجهي،
فوجهي هو القناع الذي يبتسم من خلف كل نافذة مظلمة.

هذه النصوص، وإن لم تكن أدلة جنائية، عكست كيف يمكن للتقنية أن تحاكي «صوت القاتل» وتفتح نافذة على ذهنيته المريضة.

مخاطر محاكاة العقول الإجرامية

إن محاكاة العقول الإجرامية عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي قد تفتح أبواباً بحثية مهمة لفهم أنماط التفكير المنحرف، لكنها تحمل في الوقت نفسه مخاطر أخلاقية ونفسية بالغة. فعندما يتعلّم النموذج لغات العنف والهوس، قد يعيد إنتاجها بطرق تُثير إعجاب بعض الأفراد ذوي الميول المنحرفة، فيحول الرعب إلى مصدر إلهام. كما أن تكرار خطاب الكراهية أو النزعات السادية في نصوص مولدة آليًا قد يؤدي إلى تطبيع هذا الخطاب، أو حتى إلى استغلاله في تبرير سلوكيات منحرفة. والأسوأ، أن محاكاة عقل مريض دون سياج أخلاقي صارم قد تزرع بذور "أسطورة جديدة" تُمجّد المجرم بدل أن تكشف بشاعته. لذلك، تظل مسؤولية الباحثين مضاعفة: الاستفادة من قوة الذكاء الاصطناعي لفهم الجريمة، مع منع تحوّل الأداة إلى وسيلة لإعادة إنتاجها أو تمجيدها.

جريمة بقيت بدون حل : هل ستبقى جريمة كاملة ؟

رغم عقود من التحقيقات، لم يُحدد القاتل المتسلسل زودياك رسمياً، لكن قائمة المشتبهين ضمت أسماء بارزة أثارت جدلاً واسعاً. على رأسهم آرثر لي ألن، المعلّم المفصول الذي اعتبره المحققون المشتبه الرسمي الوحيد، إذ ارتبط بعدة قرائن ظرفية دون أدلة حاسمة، وظل اسمه يتردد حتى وفاته عام 1992. 

لاحقاً، ظهر اسم غاري فرانسيس بوست بعدما أعلنت مجموعة “Case Breakers” عام 2021 أنه زودياك، مستندة إلى تفسيرات لصور وأدلة ميدانية، إلا أن السلطات لم تؤكد ذلك. كما طرحت أسماء أخرى مثل لورنس كين، وروس سوليفان، وإيرل فان بيست جونيور، وريتشارد مارشال، وكلها ظلت في إطار التكهنات الإعلامية لا الحقائق القضائية. 

وهكذا بقيت قائمة المشتبهين مفتوحة، تعكس فراغ الهوية الحقيقية الذي صنع أسطورة زودياك وأطال عمرها في الذاكرة الجماعية.

وفي الختام ، تمثل قصة زودياك التقاء ثلاث عوالم: الجريمة، الإعلام، واللغة المشفّرة. نصف قرن مرّ، وما زالت الشيفرات والمشتبه بهم والقصائد المظلمة تثير خيال الباحثين والجمهور ، وإذا كان العقل الإجرامي قد سبق عصره في استغلال الصحافة والرموز، فإن الذكاء الاصطناعي اليوم يحاول أن يلحق بخطاه، لا ليصنع قاتلاً جديدًا، بل ليفكّ ألغاز الماضي، ويكشف لنا كيف يمكن للكلمة، مثل الرصاصة، أن تترك أثراً خالداً.


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ