في زاوية من زوايا مكتبة جامعة ييل الأميركية، تحت الرقم Beinecke MS 408، تستريح واحدة من أكثر الصفحات إثارة للدهشة في تاريخ الكتب الغامضة: مخطوطة فوينيتش ، كتاب مكون من حوالي 240 صفحة مصنوعة من جلد العجل، مزين برسومات نباتية غير معروفة، وشخصيات نسائية عارية في أحواض غريبة، ونص مكتوب بلغة مشفّرة لم تُقرأ قط… لا من قبل عالم لغات، ولا بواسطة الحاسوب.
رغم مرور أكثر من 100 عام على اكتشافه، فإن هذا الكتاب لا يزال يحكم قبضته على خيال القراء والعلماء معاً ، أثبت التأريخ الكربوني أن الرق المستخدم يعود إلى هذه الفترة بين 1404 إلى 1438.
ما الذي يجعل المخطوطة فريدة ؟
مكتوب بلغة غير مفهومة بالكامل ، لا تُشبه أي لغة بشرية معروفة. أُطلق عليها "فوينيتشيز"، وتتكون من أكثر من 20 إلى 30 حرفاً، بنمط تكراري يوازي لغات حقيقية، مما جعل البعض يعتقد أنها ليست مجرد عبث بصري ، كشف تحليل رياضي أن بنية النص تُشبه لغات طبيعية، من حيث التكرارات والإحصائيات، لكنها لا تحتوي على كلمات متقاطعة مع أية لغة حية أو ميتة.
في الكتاب أكثر من 100 نبتة غير مصنفة، ورسوم فلكية، ونصوص تمتد بجانب نساء عاريات داخل أنابيب مائية أو أحواض استحمام متصلة، يعتقد بعض الباحثين أنها إشارات إلى طقوس باطنية أو رموز طبية قديمة.
محتويات المخطوطة
تتألف مخطوطة فوينيتش من حوالي 240 صفحة (نجت من الزمن، إذ يُعتقد أن بعض صفحاتها فُقدت)، مكتوبة بخط يدوي أنيق وغامض بلغة لم تفك شفرتها حتى الآن. وهي مُقسّمة - بحسب تحليل الباحثين - إلى ستة أقسام رئيسية، لكل منها طابعه الرسومي والمضموني الخاص:
القسم النباتي
يضم أكثر من 100 رسمة نباتية لا تشبه أي نبات معروف على وجه الأرض. أوراق غريبة، جذور متشابكة، وسيقان هرمية، تُرسم بجمال فني، لكنها تُربك علماء النبات؛ إذ لم تُطابق أي تصنيف علمي معروف.
القسم الفلكي
يحتوي على مخططات دائرية فلكية، وأبراجاً تشبه الأبراج الإثني عشر لكن بتعديلات رمزية، ويُعتقد أنه يعكس معرفة فلكية متقدمة أو رمزية تقويمية دينية غير معروفة.
القسم البيولوجي
يتميز برسوم نساء عاريات - بأجساد أنثوية نمطية - يظهرن داخل أنابيب أو أحواض مائية تتصل بأنظمة شبكية غريبة، وكأنها تمثل دورة طاقية أو علاجية أو حتى كونية. تكثر فيه رموز الماء والارتباط الجسدي.
القسم الطبي أو الصيدلي
يعرض أوعية وأباريق وأدوات تشبه التي كانت تُستخدم في الصيدلة القديمة، ما يلمّح إلى محتوى علاجي أو خيميائي.
القسم النصي المشفر
وهو الأكبر من حيث الكم، يحتوي على سطور وصفحات مليئة بالكتابة الغامضة، دون أي رسوم، وكأنها توثيق لمحتوى عقائدي أو علمي سري.
القسم الشفهي أو الوصفات
تظهر فيه جمل قصيرة بنقاط تُشبه الفواصل أو القوائم، ما يدفع بعض الباحثين للاعتقاد بأنها وصفات علاجية أو تعليمات سحرية.
كيف عُثر على مخطوطة فوينيتش ؟
في عام 1912، كان تاجر الكتب البولندي الأصل ولفريد فوينيتش Wilfrid Voynich يتجول في دير فيلا موندراجوني Villa Mondragone في بلدة فراسكاتي الإيطالية، بالقرب من روما. كان المكان آنذاك تابعاً للرهبان اليسوعيين، ويحتوي على مكتبة ضخمة تضم آلاف المخطوطات القديمة المعروضة للبيع بهدوء لأسباب مالية.
وبين تلك الأوراق الصفراء والكتب المهملة، لفت انتباه فوينيتش كتاب غريب، بلا عنوان، مرسوم بخط غريب ومليء بالرسوم النباتية والرمزية التي لم يشهد مثلها من قبل. دفع ثمنه وأخذه إلى لندن، ومن هناك بدأت رحلته في محاولة فك لغزه، وأصبح الكتاب يعرف لاحقاً باسمه.
لاحقاً، وُجدت ورقة مرفقة داخل المخطوطة، كُتب فيها أن الكتاب كان في حوزة الإمبراطور رودولف الثاني في القرن السادس عشر، وأنه اشترى المخطوطة مقابل 600 قطعة ذهبية، واعتقد أنها من تأليف روجر بيكون، الفيلسوف الإنجليزي الشهير.
ومنذ ذلك الحين، انتقل الكتاب بين عدة أيد، إلى أن استقر أخيراً في مكتبة بينيك بجامعة ييل، حيث لا يزال محفوظاً حتى يومنا هذا تحت الرقم MS 408.
هل المخطوطة حقيقية ؟ أم مجرد خدعة بارعة ؟
تحليل الكربون المشع للرق أكد أنها تعود للقرن الخامس عشر كما أن الحبر المستخدم مطابق لتلك الحقبة ، ونمط الكتابة والتكرارات معقد جداً لدرجة يصعب معها تصديق كونه عبثاً ، كما لا توجد أي دلالات أن الرسم اليدوي كان بتخطيط مسبق أو منقول مما يشير إلى تأليف أصلي ومع ذلك لم يُعثر على أي ذكر للمخطوطة في أرشيفات القرون الوسطى ولم يُعرف مؤلفها حتى الآن ، هناك احتمال أن تكون خدعة من العصر الحديث (قبل 1912) ، متقنة إلى درجة الجنون إلا أن التحاليل المعملية تنفي ذلك.
آخر التحقيقات
في عام 2000 وما تلاه بدأ استخدام دراسات رقمية وذكاء اصطناعي لفك شفرتها ، وفي عام 2019 ظهر ادعاء كاذب بفك رموز المخطوطة من باحث إنجليزي ، ومنذ عام 2020 وحتى يومنا هذا تجددت الأبحاث باستخدام تقنيات الحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي ولا نتائج حاسمة حتى الآن.
ذكاء اصطناعي دون جدوى
العديد من فرق الذكاء الاصطناعي مثل فريق جامعة Alberta الكندية حاولت تحليل النص وتحويله إلى رموز لاتينية أو كشف نمطه، لكن دون التوصل إلى مفاتيح لفك الشيفرة.
نظرية اللغة المصطنعة
يرى البعض أن صاحب المخطوطة اخترع لغة خاصة لنقل أفكار سحرية أو فلسفية بطريقة سرية، ربما لأسباب دينية أو سياسية أو حتى شخصية.
نظرية العلاج النباتي والطب النسائي
تشير الرسومات إلى احتمالية أن الكتاب كان دليلاً طبياً سرياً يعالج "أمراض النساء" باستخدام نباتات وعلاجات سرية مرتبطة بدورات القمر والماء.
خدعة فنية ؟
يرى البعض أنها مجرد عمل فني شديد التعقيد، يشبه أسلوب الفنان "لويجي سيرافيني" في كتابه الشهير سيرافينيوس Codex Seraphinianus، لكن يسبقه بـ 500 عام !
لماذا لم تُفك شفرتها حتى الآن ؟
هذا عائد إلى غياب مفتاح شيفرة إذ لم يُعثر على نص موازٍ أو ترجمة أو دليل داخلي ، وقد تكون اللغة لا صوتية أي تعتمد على رموز معنوية، لا لفظية ، وقد تمثل الشفرة نمطاً في الزيف (منطقي ظاهرياً) أي قد يكون الكتاب مكتوباًُ عمداً ليُشبه لغة حقيقية، لكنه ليس كذلك.
من كتب المخطوطة... ولماذا ؟
حتى اليوم، لم تُعرف هوية المؤلف وقد طُرحت أسماء مثل:
- روجر بيكون: الفيلسوف الإنجليزي - لا دليل قوي.
- جون دي: عالم سحر ورياضيات - افتراض غير مؤكد.
- امرأة مجهولة: كتبت تجربتها الطبية بلغة شخصية - فرضية جديدة.
- أحد النساخ الرهبان: لسبب باطني أو لحماية المعرفة.
السبب ؟
قد يكون التشفير وسيلة لحماية معرفة محرمة، أو أداة للغموض والدهشة، أو مجرد لعبة عقلية عبقرية تستهزئ بالعقل البشري.
ماذا ننتظر ؟
تطوير خوارزميات جديدة تستخدم الحوسبة الكمية لفك الشفرات ، ومقارنة متعمقة مع نصوص مخفية من العصور الوسطى ، ومحاولة "قراءة المخطوطة" دون كسر الشيفرة، عبر تحليل الرموز والرسومات كمحتوى بصري مستقل.
وختاماً ، ربما لا يمكن فهم مخطوطة فوينيتش، لأنها لم تُكتب لتُفهم." ، ربما كانت هذه الجملة التي قالها أحد الباحثين تعبر عن جوهر الحكاية ، هل نحن أمام كتاب مقدس لطائفة منقرضة ؟ أم مدونة سرية لطبيب نساء في عصر مظلم ؟ أم نكتة عبقرية تركها مجهول ليرى كم سيبقى البشر يركضون خلف الرموز ؟
ما نعلمه فقط أن "مخطوطة فوينيتش" تقف عند تخوم المعرفة، في نقطة الالتقاء بين العلم والجنون، الحقيقة والأسطورة.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .