بين الجبال الصلبة والوديان السحيقة، وفي ظل المعابد القديمة التي شهدت حضارات متعاقبة، يختبئ في اليمن عالم مواز من الحكايات والأساطير والمشاهد الغامضة التي تأسر الخيال.
هذه الجولة ليست كسائر الرحلات السياحية، بل هي عبور إلى أرض تتقاطع فيها الآثار المهيبة مع قصص الجن والطقوس الغامضة، حيث يختلط التاريخ بالماورائيات في نسيج واحد.
أهم كائنات الجن في الفلكلور اليمني
جنية العقبة (عدن)
أسطورة محلية شهيرة في عدن، خاصة بمنطقة "العقبة" أو "باب عدن" ، تروي قصة فتاة فائقة الجمال لكنها تملك سيقان حمار، تظهر ليلاً، وتجذب المارة؛ يُروى أن بعض السائقين توقفوا رغبة في النظر إليها، والبعض اتهم بأنها لوّحت لهم يدها، بل وركبت مع أحدهم في سيارة إلى "مدينة الجن" أسفل بحر حقات ، الرواية تمثل رعباً شعبياً عتيقاً، مع تسجيل قصة حقيقية مرتبطة بأحداث في مطلع الستينيات بإدخال ضباط إلى فيلا صغيرة ظلت مهجورة حيث فوجئوا بأشياء تتحرك لوحدها مما زاد زخم الأسطورة ، إقرا المزيد عن أسطورة حنية العقبة.
أم الصبيان
كائن شيطاني مذكور في نصوص سحرية تتداولها المجتمعات الريفية اليمنية ، وتوصف بأنها جنية بشعة بقدمي بقرة، لكنها تتنكر في هيئة امرأة جذابة تظهر ليلاً أو قبل الفجر ، تقوم باختطاف الرجال أو تصيبهم بالجنون أو الموت بمن يراها على حقيقتها، خاصة الأطفال ، هناك تعاويذ وطلاسم مكتوبة بخط خفي - حسب بعض المخطوطات- للوقاية منها.
السِّلة
نوع آخر من الجن أنثوي المظهر في الفلكلور العربي، يُقال إنهن موهوبات في التخفي ويتخذن شكلاً بشرياً مزيفاً، لكن يمكن كشفهن عبر بعض السمات الغريبة ، يسكنّ الصحارى المهجورة ويضللن المسافرين أو يرشدنهم أو حتى يتزوجن من بشر، أو إنجاب نسل مختلط.
أبو فانوس
ظاهرة ضوئية في الصحراء العربية، تشمل مناطق من بينها اليمن ، تظهر على شكل ضوء أو كرة مضيئة تتحرك بلا انتظام في الليل أو قبل الفجر، وتُغري المسافرين باتباعها ، تختفي فجأة، تاركة ضحاياها يتيهون وسط الصحراء ، ويُرجح أنها ظاهرة طبيعية (مثل غازات متوهجة)، لكن الفلكلور يربطها بالجن الذين يُستخدمونها كوسيلة للخداع.
أماكن غامضة ومسكونة بالجن
يزخر تراث اليمن بالقصص التي تتحدث عن كائنات غير مرئية، بعضها طيب وبعضها شرير، تسكن الكهوف، والوديان المنسية، وأطلال المدن القديمة. في الحكايات الشعبية، يظهر الجن على هيئة بشر أو حيوانات غريبة، ويسيطرون على الماء أو الرياح، بل ويحرسون الكنوز الدفينة. وتُروى أساطير عن جن يختطفون العابرين في الليالي المظلمة أو يضلّلونهم بين الجبال.
بئر برهوت: "سجن الجن"
في شرق اليمن بمحافظة المهرة، تقع حفرة عميقة تُعرف باسم بئر برهوت، أو كما يسميها البعض "بئر الجحيم". ظلّت هذه البقعة لقرون محاطة بالرهبة، حيث يقال إن قاعها مأوى للجن الأشرار والأرواح المعذبة. في عام 2021، نجح فريق من الكهوفيين العُمانيين في النزول إليها لأول مرة، ليجدوا شلالات تحت الأرض وثعابين وحيوانات نافقة، لكن لا أثر لجن أو شياطين. ومع ذلك، بقيت الأسطورة أقوى من أي تفسير علمي، وظلّ الناس يتحدثون عن لعنة المكان لكل من يقترب منه.
مقبرة أمبيخة
في قلب مدينة المكلا بحضرموت، تُعد مقبرة أمبيخة أقدم وأكبر مقابر المنطقة، وتحمل مكانة دينية واجتماعية بارزة، لكنها اشتهرت بأساطير وأحداث غامضة. أفاد السكان باختفاء حيوانات، وظهور أضواء غريبة، وسماع همسات بعد الغروب، فيما يربط البعض هذه الظواهر بطقوس شعوذة أو عبادة الشياطين. يروي أحدهم أن بوابة المقبرة فُتحت وحدها وانبعثت منها رياح ساخنة أفقدته الوعي، بينما يؤكد الحارس أنه لا يخرج ليلاً بسبب أصوات مخيفة. تاريخياً، دفن فيها ضحايا صراعات وحروب، وتضررت بفعل السيول، ما أضاف إلى هالتها المهيبة. التفسيرات تتراوح بين نشاطات بشرية تستغل الخوف الشعبي، و"ذاكرة مظلمة" لمكان شهد مآسي، مما جعلها بؤرة لقصص ما وراء الطبيعة.
مسجد تاربة: همسات أثناء الصلاة
في منطقة حضرموت، يقف مسجد تاربة شامخاً بين الرمال، وهو مكان مقدس لكن تحيط به روايات غريبة. يذكر المصلون أن أصوات همس خافتة تُسمع أحياناً أثناء الصلاة، وكأنها تأتي من كل الجهات، مع أن المسجد خالٍ إلا من المصلين. لا أحد يعرف سبب هذه الظاهرة، لكن أهل المنطقة يرون فيها علامة على حضور قوى غير مرئية.
معبد أوام: بوابة إلى العوالم الأخرى
قرب مدينة مأرب، يقف معبد أوام، أو "محرم بلقيس"، وهو من أضخم المعابد السبئية وأكثرها إثارة للدهشة. كان هذا المكان مركزاً للطقوس الدينية التي يتقرب فيها الناس من آلهتهم، ويُعتقد أن بعض الطقوس كانت تشبه "النوم المقدس"، حيث يبيت الزائر داخل المعبد منتظراً رؤيا أو رسالة غيبية. مثل هذه الممارسات تضيف بعداً ماورائياً للمكان، وتجعله يبدو كجسر بين عالم البشر والعالم الروحي.
قصر غمدان: أسطورة البناء المفقود
في صنعاء القديمة، يتناقل الناس أسطورة قصر غمدان، الذي قيل إن سام بن نوح بناه على قمة جبل. كان القصر معجزة معمارية بارتفاع شاهق وأبراج متعددة، حتى قيل إن أصوات الأسود المحبوسة فيه تتردد أصداؤها في المدينة عند هبوب الرياح. لكن القصر هُدم منذ قرون، ولم يبق منه سوى القصص والشعر الذي يخلده.
دار الحجر: حصن على كتف الصخر
في وادي ظهر قرب صنعاء، يعلو قصر دار الحجر فوق كتلة صخرية، وكأنه نبت من الحجر نفسه. يعتقد البعض أنه بُني على أنقاض حصن سبئي قديم، وأنه شهد أحداثاً غامضة وأعيد بناؤه أكثر من مرة. هندسته المدهشة وموقعه المهيب جعلاه محوراً لقصص تتحدث عن حراسه من الجن وحماية المكان من الخراب الكامل.
مسجد الجن في الحديدة
في قلب منطقة الدريهمي بمحافظة الحديدة، يقف مسجد الجن – المعروف أيضاً باسم جامع علي بن المقبول – شاهداً على أكثر من أربعة قرون من التاريخ. شُيّد عام 1011هـ على يد السيد علي بن المقبول، ويتميز بقبابه التسع وتصميمه الفريد الذي يجمع بين البساطة اليمنية واللمسات الجمالية المدهشة.
وراء جدرانه العتيقة، تتردد أسطورة قديمة منحت المسجد اسمه الغامض: تقول الحكاية إن الجن هم من أكملوا بناء الجزء الجنوبي من المسجد في ليلة مظلمة، بعد أن شيده السيد علي بن المقبول بقبابه الثلاث الأولى. وبحسب الرواية الشعبية، اختفى البناؤون فجأة قبل بزوغ الفجر، فظن الأهالي أنهم كائنات غير بشرية، خاصة وأنهم أتموا العمل في زمن قياسي.
لكن خلف هذه القصة الماورائية، تكمن رواية أكثر واقعية: إذ تشير المصادر المحلية إلى أن جماعة من الحجاج الهنود توقفت في المنطقة، وأرادت توسعة المسجد على نفقتها. وبعد جدل، اتفقوا مع السيد على العمل بأجرة، لكنهم رحلوا قبل استلام مستحقاتهم، ما دفع الأهالي لنسج الأسطورة حولهم. ورغم نفي بعض السكان لهذه القصة الخيالية، فإن اسم "مسجد الجن" ظل ملازماً للمكان، مضيفاً إليه هالة من الغموض والجاذبية حتى يومنا هذا.
طقوس السحر : استحضار أرواح وتحصين
طقوس الزار
تُعد طقوس "الزار" في اليمن وخصوصاً في عدن وتعز من أبرز الممارسات السحرية والطقوسية المتوارثة ، حيث تجمع بين العلاج الروحي الغامض والأداء الموسيقي التصالحي، وتهدف للتصالح مع ما يُعتقد أنه كيانات روحانية تسكن الإنسان، خاصة النساء، وتسبب له أمراضاً أو اضطرابات نفسية ، يقود الطقوس "الزعرة" ويشمل الحفل قراءة "الفاتحة" واستخدام البخور الطاهر لجلب الأرواح ، وتغطية الرأس بقماش لتجمع الدخان ثم تمرير البخور تحت الذراعين وبين الساقين والقدمين ، وحلقات رقصة إيقاعية حول ضحية تلبس الجن (الممسوس) تتزامن مع الطبول والأغاني ، وقد يتضمن تقديم قرابين (بيض، تواريخ، طعام، دم) في وسط حلبة الطقس مما يصل أحياناً إلى مرحلة السقوط في شبه غيبوبة ، يُعتقد أن ذلك يطرد الروح المسببة أو التوصل إلى تفاهم معها.
السبعة السحرية - النقوش الطلسمية
في مدينة الجبين والمرتفعات الغربية، اكتُشفت نقوش على بقايا خزانات ماء تحمل رموزاً سحرية من كتاب "شمس المعارف" لأحمد البوني، تشمل سبعة علامات سحرية يُعتقد أن فيها قوة استدعاة وحماية لاستخدامات مثل تأمين الماء أو دفن شر.
طقوس السحر لدى يهود اليمن
في الذاكرة الشعبية اليمنية، يُطلق لقب "البهود" على فئة من اليهود اليمنيين الذين اشتهروا، في الحكايات المتوارثة، بامتلاكهم معارف خاصة في السحر والتعاويذ والعلاجات الروحية. هذه الصورة ليست مجرد نتاج للخيال الشعبي، بل تعود جذورها إلى قرون من التعايش والاحتكاك الثقافي بين المسلمين واليهود في المدن والأسواق والقرى الجبلية ، تتناقل الحكايات أن بعض البهود كانوا يُستدعون لفك عقد سحر أو صنع حُجب واقية، وأن لديهم كتباً قديمة بخطوط عبرية ومسندية تحوي رموزاً وطلاسم يُعتقد أنها تستحضر قوى غيبية أو تدرأ الأرواح المؤذية. ويرتبط ذكرهم غالباً بألوان محددة من الطقوس، مثل استخدام البخور الخاص أو الكتابة بالحبر المخلوط بدم طير أو حيوان، وهي ممارسات وُصفت في التراث الشعبي بأنها أسرار "لا يفهمها إلا البهود" ، وفي بعض القرى تُروى قصص عن بيوت كان يسكنها يهود ثم هجروها، وظلت تُتهم بأنها مسكونة بالجن الحارسين لكنوز مدفونة ، وتربط روايات أخرى بين أسماء بعض الحاخامات اليمنيين القدامى ومهاراتهم في "العلاج بالرقية" أو "إبطال عين الحاسد"، وهو ما جعل صورتهم تتداخل بين المعالج الروحي والساحر الماورائي.
الساحر اليمني التائب: من عوالم السحر إلى دراما "المداح"
تدور خلفية مسلسل "المداح" أسطورة واقعية مؤثرة عن الساحر اليمني التائب داود فرحان ، بدأت حياته منذ الصغر، حين كان والده يمارس عليه طقوساً سحرية غريبة طوعاً أو قسراً، فتلبّسته قوى الجن منذ عمر ستة أشهر وبعد وفاة والده في سن الرابعة عشر عاش عزلة عميقة وبدأ في رحلة مع السحر الأسود، حتى وصل إلى حالة من الجنون الروحي والخلوات الشيطانية التي انتهت بلقاء مباشر مع إبليس، وفقاً لتصريحاته ، ومرت سنوات من القوة السحرية والظلام حتى أن رأى والده في حلم يحذره من طريق لا ينتهي إلى الخراب ، كانت هذه الرؤية نقطة تحول حاسمة دفعته إلى التوبة والعودة إلى الله، وعقب ذلك تعرضت أسرته للانتقام من الجن ما أدى إلى مقتل زوجته وأولاده ، من هنا بدأ داود فرحان بشهادة صادقة عن رحلته محذراً الآخرين من مخاطر السحر، وثابتاً قوله تعالى: "وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ" ، نجح مسلسل "المداح" في استلهام هذا السرد الإنساني المأساوي بشكل درامي مشوّق حيث جسّد الفنان حمادة هلال شخصية المداح المقاتل بين الخير والشر، وبين قوى الظلام وعزيمته الداخلية.
قصة انتقال عرش بلقيس
تُعد واقعة إحضار عرش ملكة سبأ إلى النبي سليمان عليه السلام، كما وردت في سورة النمل، من أبرز المشاهد الماورائية في التراث، إذ عُرض على سليمان نقله بواسطة عفريت من الجن في زمن قصير، لكن شخصاً "عنده علم من الكتاب" أتى به في لحظة خاطفة "قبل أن يرتد إليه طرفه"، في مشهد يُفهم كاختراق لقوانين الزمان والمكان. ورغم شهرة القصة، فإن النقوش السبئية لم تذكر اسم بلقيس، ربما لاختلاف أسمائها التاريخية، أو لفقدان السجلات، أو لطبيعة النقوش السياسية التي تجنبت الإشارة لخضوع ملكة أجنبية لملك آخر. هذه الفجوة بين النص الماورائي والغياب الأثري تزيد القصة غموضاً وجاذبية، وتجعلها محور جدل بين الباحثين والمؤرخين.
أرض تجمع بين الأسطورة والواقع
اليمن ليست مجرد بلد غني بالآثار، بل هي فسيفساء من المعتقدات والأساطير، حيث تختلط الحقيقة بالخيال، والأنقاض بالطقوس، والمشاهد الطبيعية بالقصص الماورائية ، في هذه الأرض لا يمكن للمرء أن يعرف على وجه اليقين إن كان ما يراه جزءاً من التاريخ… أم جزءاً من عالم آخر يطل علينا بين حين وآخر.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .