من بين المشاهد الأكثر شهرة في تراث الحكايات الخيالية، تبرز صورة علاء الدين وهو يفرك المصباح السحري، لتنطلق سحابة دخان داكن، يتشكل منها جني عملاق يقول بصوت مهيب: "شُبيك لبّيك، عبدك بين يديك ! " ، وفي حكاية أخرى ترد قصة الصياد الذي أخرج قارورة مغلقة من البحر وما إن فتحها حتى خرج منها جني غاضب قال إنه كان مسجوناً فيها منذ قرون وفي نوبة من الحقد، أخبر الجني الصياد بأنه كان قد أقسم أن يقتل أول من يحرره.
مع أن تلك الحكايات التي وردت في كتاب ألف ليلة وليلة تبدو في ظاهرها من نسج الخيال، إلا أنها تحمل في أعماقها رمزاً قديماً لفكرة سحرية متجذرة في الثقافات الشرقية ، فكرة أن كائناً خارقاً مثل الجني يمكن حبسه داخل وعاء محكم الإغلاق بطلاسم وأختام، ولا يخرج إلا وفق شروط غامضة ، فهل هذه الفكرة مجرد خرافة ؟ أم أن لها جذوراً في التاريخ، والمعتقدات الدينية، والممارسات السحرية ؟
في الواقع ، ما قد يجهله كثيرون أن هذه الصورة ليست اختراعاً خيالياً صرفاً، بل لها جذور ضاربة في كتب التراث، والأساطير، والمعتقدات الدينية.
النبي سليمان النبي الذي قيد الجن بالأصفاد
في القرآن الكريم، نقرأ عن سليمان عليه السلام، النبي الذي سُخّرت له قوى خارقة من الرياح والطير والجن: " وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَٰلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ " (الأنبياء: 82) ، وكذلك نجد "وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ" (ص: 37–38) ، تُظهر هذه الآيات أن سليمان لم يكن فقط يُسخّر الجن بل كان يقيّدهم ويحبسهم إذا عصوا، باستخدام "الأصفاد"، أي القيود.
وقد فهم بعض المفسرين والمشتغلين بالروحانيات لاحقاً أن هذه السلطة الإلهية كانت تشمل أسر الأرواح وحبس الشياطين وربما إغلاقهم داخل أوعية معينة، خاصة مع ما يُنسب إلى سليمان من امتلاكه الخاتم السليماني التي توصف بأنها أداة السيطرة المطلقة على الجن.
من السلطة النبوية إلى الطقوس السحرية
مع مرور الزمن، وخصوصاً في العصور الإسلامية الوسطى، ظهرت كتب السحر والطلسمات التي زعمت أن الإنسان، إن امتلك "العلوم الخفية"، يمكنه أن يُقلد سليمان بشكل رمزي ، ومن أبرز هذه الكتب: شمس المعارف الكبرى (أحمد البوني) ومنبع أصول الحكمة وغاية الحكيم ، تتحدث هذه الكتب صراحة عن: استحضار الجن بعزائم خاصة ، حبسهم في زجاجات أو صناديق ، إغلاق الوعاء باستخدام ختم روحاني أو شمع أحمر ، وضع طلاسم باللغة السريانية أو العبرية القديمة لمنع هروبهم ، ويُعتقد في الطقوس السحرية أن "الختم الروحي" ليس مجرد ختم مادي، بل رمز كوني يُحاكي توقيع الخالق على باب الروح وأن من يفكه دون إذن يُعرّض نفسه لما يسمى "ردة الفعل الروحية"، كأن يستعيد الكائن المحبوس قوته فيهاجمه أو يتلبّسه.
لماذا يحبس الساحر الجني ؟
تتفاوت طبيعة الأهداف التي يلجأ إليها الساحر لحبس الجني ونذكر منها :
التسخير القهري (الاستعباد الروحي)
الحبس هنا بمثابة سجن لإخضاع الجني وجعله "خادماً" لا يجرؤ على العصيان ويتمثل في إجبار الجني على تنفيذ أوامر دون إرادته مثل : كشف عن الغيب أو المسروق ، جلب الحبيب أو طرده ، إلحاق الضرر بالغير (سحر الانتقام) ، الحماية من الأرواح أو السحرة الآخرين.
التحكم المؤجل (الاستخدام عند الحاجة)
زهنا يُحبس الجني في وعاء خاص (قارورة أو صندوق)، وتُكتب عليه طلاسم لتبقيه خامداً ، ويُفك الختم فقط عندما يحتاج الساحر إلى خدمته ، هذه الطريقة منتشرة في طقوس "الاحتفاظ بالخادم"، وتُستخدم في المغرب، اليمن، والسودان.
العقاب والردع
يُقال إن بعض السحرة يُعاقبون الجني إذا خالف العهد أو تمرّد حيث يُحبس داخل وعاء ويُحرم من العودة إلى العالم الآخر ، هذا الحبس يكون أحياناً أبدياً أو طقسياً حتى يسترضي الساحر.
الحماية والتحصين
يُحبس جني مدرَّب في وعاء ويُدفن في منزل أو قرب الضريح لحمايته من الجنّ الطائش ، السحر المعاكس ، العين والحسد ، في هذه الحالة يكون الجني في وضع مراقبة لا هجوم، مثل "عين حارسة".
التمثيل الرمزي للقوة
في بعض الحالات، لا يُقصد الحبس الحقيقي، بل رمزية أن الساحر استطاع "إحكام سلطته" على كيان ، ويُستخدم ذلك في طقوس استعراض القوة أو الطقوس التعليمية، خاصة عند تسليم السلطة إلى "وريث روحاني".
الربط الوراثي
يُحبس الجني لخدمة ذريّة الساحر من بعده ، ويُقال إن بعض السحرة "يربطون" الجن بمكان (غرفة، بيت، مغارة) ويورثونه عبر تعاويذ خاصة، بشرط أن يتم الحفاظ على الوعاء وعدم كسره أو فتحه عبثاً.
طقس "حبس الجني بالختم الروحي"
في هذا الطقس، تُستخدم أدوات خاصة، أهمها:
- قارورة أو صندوق مغلق (زجاج، فخار، نحاس)
- شمع أحمر أو رصاص مذاب يوضع على الفتحة
- ختم مكتوب عليه طلسـم خاص أو اسم ملك من الجن
- عزائم تُتلى أثناء الحبس، غالباً من "دعوة الجلجلوتية" أو "البرهتية".
ويُقال إن الجني يُجبر على الدخول في الوعاء، ثم يُغلق عليه الختم ليبقى "محبوساً" إلى أن يُفك السحر.
كيف يحرر الساحر الجني من حبسه ؟
تكون من خلال قراءة عزيمة فك الختم (تكون خاصة بكل جني) أو كسر الطلسـم أو إذابة الشمع الأحمر أو بإعطاء "إذن الخروج" المربوط بموعد فلكي أو طقس نجمي (كظهور كوكب زحل أو القمر في منزلة معينة).
قصص واقعية مزعومة عن حبس الجن
تجربة نادر مع قارورة جده
أرسل لنا نادر (27 سنة) من المغرب تجربته مباشرة إلى موقعنا موقع ما وراء الطبيعة PARANORMAL ARABIA حيث روى أنه اكتشف قارورة مختومة بالشمع الأحمر في غرفة جده، الذي كان يمارس طقوساً روحانية سريّة. أخبره والده أن القارورة تحبس جنياً شريراً، وكان فتحها سيجلب كارثة. منذ ذلك الحين، بدأت تطارده كوابيس ليلية وظواهر غريبة، منها رؤى متكررة لجني وظهور قطط سوداء وظلال، حتى بدأت والدته نفسها تمرّ بحالات صراخ وتلبّس، لا تهدأ إلا بتلاوة القرآن ، إقرأ المزيد عن : إرث جدي الذي فتح باباً للمجهول .
زجاجة الجن في المغرب
في إحدى قرى الجنوب المغربي، ادّعى أحد المشايخ أنه يمتلك قارورة محكمة الإغلاق بالشمع الأحمر تحتوي على جني خادم، يُساعده في الكشف عن السارقين ، وحذر أي شخص من لمسها أو الاقتراب منها "لئلا ينفلت منها الجن ويسبب كارثة".
فك ختم في مصر أدى إلى هياج منزلي
فتح رجل من الصعيد صندوقاً ورقياً وجده في علية منزله، كان يحتوي على ورقة قديمة مكتوبة بالحبر الأحمر، فحدثت بعد أيام حالات صراخ وتلبس في العائلة، حتى جاء شيخ وصرّح أن الرجل "فكّ حبس جني كان مربوطًا بطلسـم"، وأن الطقس كان ناقصاً.
أسطورة الذئب والجني والحجر الكريم
ومن القصص الشعبية الغريبة في التراث العربي، هناك أسطورة تقول إن الذئب هو الكائن الوحيد الذي يخشاه الجني ، ويُروى أن جنياً هارباً من مطاردة ذئب تخفّى داخل حجر، فقام الذئب بلعق الحجر وعضّه (ويقال في بعض النسخ أنه بال عليه) حتى تحوّل إلى حجر كريم يُستخدم لاحقًا في أعمال السحر ، هذه الحكاية ورغم طابعها الأسطوري رسّخت فكرة أن الجن يمكن أن يُحبسوا داخل مواد صلبة (مثل الحجر)، ومنها نشأت المعتقدات حول الأحجار الكريمة الحاوية للطاقة أو الكيانات.
بين الواقع والأسطورة
حبس أو سجن الجني بالختم الروحي ليس مجرّد خرافة أو مشهد سينمائي… بل هو مزيج مركّب من: أسطورة خيالية (علاء الدين والمصباح) ، معتقد ديني (سليمان وتسخير الجن) ، طقس سحري موثق (كتب الطلاسم والروحانيات) ، خرافة شعبية (الذئب وحجر الجني) وكذلك تجارب فردية واقعية أو متخيلة.
وما بين السحر والإيمان، الرمز والواقع، بقيت هذه الفكرة حاضرة بقوة في الوعي الجمعي، تحذرنا أن هناك أبواباً إذا فُتحت، لا تُغلق بسهولة… وأن ليس كل ما يُحبس، يجب أن يُحرَّر ، وليس ببعيد عن هذا تُروى في الأساطير اليونانية القديمة قصة "صندوق باندورا" الذي وُهب للمرأة الأولى، وقيل لها ألا تفتحه أبداً. لكنها فتحت الغطاء مدفوعة بالفضول، فخرجت منه كل الشرور التي ابتُلي بها البشر، ولم يبقَ في الصندوق سوى "الأمل" ، هنا الرسالة واحدة وإن تنوّعت الألسن والأساطير:
ليس كل وِعاء يُفتَح... ولا كل كيان يُحرَّر.
فمن يُزيل ختماً خُتم لأجلٍ ما، عليه أن يواجه العواقب كاملة.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .