في جميع الثقافات القديمة ظلت فترة الحمل لحظة غامضة محفوفة بالرهبة، لا تُعرف بدايتها على وجه الدقة، ولا تُفهم مجريات تكوينها داخل الرحم، مما فتح المجال لتفسيرات ماورائية وأسطورية تحاول سبر أغوار المجهول الذي يصاحب تكوّن الجنين ونموه، بل وحتى وفاته في بعض الحالات.
في هذا المقال نستعرض أبرز كيانات الجن التي نُسب إليها إجهاض الحوامل وتشوهات الأجنّة، كما نعرض المقاربات النفسية والاجتماعية، دون أن نغفل التفسير العلمي العصري لما يحدث خلال هذه الفترة.
المعتقدات المرتبطة بالحمل
في العصور القديمة، كانت فترة الحمل تعتبر "هشة روحياً" وكانت المرأة الحامل تُعتبر "منفتحة طاقياً" أي أكثر عرضة لتأثير الأرواح والكائنات الخفية ويُعتقد أن الجنين - الكائن الغير المكتمل بعد - يقع في منطقة ضبابية بين عالم الأحياء وعالم الأرواح، ما يجعله هشاً ومستهدفاً من قبل كيانات لا تُرى.
تعرض الحامل للحسد أو "العين"
في العديد من الثقافات العربية، يعتقد أن المرأة الحامل هدف سهل للحسد ، وكان من النتائج المتوقعة: إسقاط الجنين، أو تشوهات، أو تعب نفسي وجسدي مستمر ، وكانت وسائل الحماية تكون بقراءة المعوذات، تعليق الخرزة الزرقاء، أو حمل التمائم القرآنية.
تلبس الجنين من قبل الجن
يُعتقد في بعض المناطق أن الجنين يمكن أن "يتلبسه" جنّي أثناء تكوينه ، وقد يُستخدم ذلك تفسيراً لحالات تشوه الجنين، أو الإجهاض المتكرر، أو حتى تغيرات سلوك الأم ، وتنتشر في المغرب والعراق ومصر قصص عن نساء أنجبن أطفالاً "غرباء الطباع" يُظن أنهم من الجن.
تسلط الكائنات الخفية على الحامل أثناء نومها
تشيع حالة شلل النوم Sleep Paralysis بين الحوامل بسبب تغيرات الجسد والهرمونات وغالباً ما يتم تفسيرها على أنها "جاثوم" أو جن يحاول إيذاء الحامل ، حيث تروي بعض القصص الشعبية أن الجن "يعشق" المرأة الحامل تحديداً، لأنها "منفتحة الطاقة" خلال الحمل.
الحمل بجنين غير بشري
هناك معتقدات نادرة تتحدث عن نساء حملن من كائنات غير بشرية (جن، مخلوقات نورانية أو شيطانية)، خصوصاً في المجتمعات التي تؤمن بـ"العِشق الروحي" من الجن ، وبعض هذه القصص تتحول إلى أساطير حول "طفل غريب" يتكلم مبكراً أو يملك قوى خارقة.
الأساطير والمرويات القديمة
أسطورة "الست" أو "السِتات"
في مصر القديمة والريف المصري، يقال إن هناك كائنات تدعى "الستات" (جمع سِت) تحوم حول الحامل في الليل وتؤذيها أو تسرق الجنين ، وكانت تُنصح الأم الحامل بعدم النوم وحدها أو في الظلام الدامس.
الساكنون في الرحم
في الموروثات اليونانية والعربية القديمة، كان يُعتقد أن الرحم تسكنه أرواح أو كائنات يمكن أن "تخنق" المرأة نفسياً أثناء الحمل، فيما يشبه اليوم اكتئاب الحمل.
قصص واقعية
- امرأة في جنوب لبنان كانت تقول إنها تسمع همسات قرب أذنها كلما دخلت شهورها الأخيرة من الحمل، وبعد الولادة تبين أن الطفل لديه تصرفات "مريبة" منها تجنب النظر في عيني الناس.
- في المغرب، ادعت سيدة أنها كانت تُفيق كل يوم على صوت رجل يهمس داخل بطنها، وعندما أخبرها أحد الشيوخ، قال لها: "ليس كل ما في الرحم هو من نسل آدم".
كيانات الجنّ المتهمة بإسقاط الأجنّة
أم الصبيان
أشهر كيان ماورائي في التراث العربي الإسلامي ، ويُعتقد أنه مسؤول عن إسقاط الجنين ، تُصوّر كجنية شرسة تختار الحوامل في الأشهر الأولى لإفشال الحمل ، يُقال إنها "تحوم ليلاً" وتختار الحوامل لإسقاط أجنتهم خاصة إذا كانت المرأة غير محصنة (لم تقرأ الرقية أو الأذكار) ، يظهر اسمها في كتب السحر والرقى مثل "شمس المعارف" و"منبع أصول الحكمة"، وتُذكر كعدو يجب الحذر منه ، وتُستخدم ضدها أحراز خاصة.
أم خنجر
وتدعى أيضاً "الطرطبية" في مصر ، تظهر في الموروث المصري الريفي ، ويُعتقد أنها كيان أنثوي يحمل خنجراً دقيقاً تستخدمه لتمزيق الجنين من الداخل، يُعتقد أنها تهاجم النساء اللواتي لم يوفين بنذر قديم أو خالفن طقساً دينياً.
أم الصلايب
تظهر غالباً في الموروث السوداني والمغاربي ، يُظن أنها تستهدف الجنين الذكر تحديداً ربما نتيجة دلالات مجتمعية عن أهمية الذكور ، وتظهر في الرؤى كـ"امرأة تحمل صليباً أو سكيناً" ، ويُقال أن النساء يُنصحن بعدم التحدث عنها بصوت عال كي لا تستشعر بوجود الحمل.
أم خنوقة أو الخيطة
تظهر في المغرب وبلاد الأندلس القديمة ، توصف بأنها عجوز شريرة وقبيحة تجلس عند أبواب البيوت التي فيها حوامل وتنتظر لحظة الضعف ، تتسلل إلى أحلام المرأة الحامل وتبث فيها الرعب.، ويُعتقد أنها تدخل عبر الثياب أو الفتحات الصغيرة وتهاجم الجنين ، وفي بعض الروايات تتسبب في ولادات "غير بشرية"، كأطفال صمّ أو زائغي العين.
أم الزوابع
يتم وصفها على أنها من كبار الشياطين الإناث ومسؤولة عن إحداث الرياح القوية التي يُظن أنها تثير تقلصات الرحم، وتسبب إسقاطاً ، وربطها البعض بحالات المخاض المبكر.
كانت هذه الكيانات بمثابة تفسير رمزي لما لم يكن يُفهم في زمن الطب المحدود: الإسقاطات التلقائية، التشوهات، أو موت الأجنّة داخل الرحم ، ويعتقد بعض الباحثين أن هذه الكيانات تمثل القلق الجمعي من الأمومة، والولادة، وفقدان الأطفال في مجتمعات يغيب فيها الأمان الصحي ، أما أسماء هذه الكيانات فقد تكون ظهرت في القصص الشفوية والأساطير النسائية التي كانت تُنقل في جلسات التوليد أو الأمسيات الشعبية.
طقوس شعبية لحماية الحامل
هناك عدة طقوس وإجراءات في المعتقدات الشعبية تهدف إلى الوقاية من شر الكيانات الخفية ونذكر منها :
- حرز أمّ الصبيان: ورقة مكتوبة عليها تعويذات تعلق حول بطن المرأة الحامل أو توضع تحت وسادتها ، وفي بعض الأماكن تكتب بالزعفران على جلد غزال صغير.
- غلق منافذ البيت ليلاً : خاصة النوافذ والفتحات، لاعتقاد أن "أم الصبيان" تدخل عبرها.
- تعليق التمائم: مثل الخرزة الزرقاء، والخيط الأحمر، أو تميمة تحتوي على سورة الزلزلة أو آية الكرسي ، وأحياناً يُخاط حرز فيه رمل البحر مع فضلات القطة (كطقس شعبي لمقاومة الجانّ الإناث تحديداً).
- تبخير الحامل : باستخدام اللبان أو الجاوي أو العرعر، لطرد الأرواح الشريرة من حول الرحم ، يفضل القيام بهذا التبخير عند غروب الشمس وقت "نشاط الجن" بحسب المعتقد.
- عدم ترك ملابس الحامل منشورة في الليل خوفاً من أن "الجن يشمها".
- وضع الحديد (مفتاح، إبرة) في وسادة الحامل كوسيلة "لقطع الطاقات الشريرة".
الجانب النفسي
في الكثير من المجتمعات، الجن العاشق هو كائن متخيل يرمز غالباً إلى الخوف من العلاقة الجنسية أو الأمومة، خاصة إذا كان الحمل خارج إطار السيطرة أو في ظل مشاعر سلبية ، بعض النساء أبلغن عن سماع همسات ليلاً، أو الشعور بكيان غير مرئي يحوم حول بطونهن ، ومع تفسير ذلك ماورائياً نجد أن علم النفس الحديث يرى في هذه الهلوسات مؤشراً على القلق، والاكتئاب، أو اضطراب النوم أثناء الحمل ، فالحمل يسبب تغيرات هرمونية حادة تؤثر على الحالة النفسية وقد تولّد هلاوس سمعية أو بصرية خفيفة ، وقد يترجم اكتئاب الحمل بوعي شعبي إلى "مسّ" أو تأثير خارجي.
ما يقوله العلم عن الإجهاض والتشوهات
رغم غموض ما سبق، إلا أن العلم الحديث يفسر غالبية حالات الإسقاطات الجنينية وتشوهات الأجنة كما يلي:
الإجهاض الطبيعي Spontaneous Abortion
أكثر من 80% من حالات الإجهاض تحدث في أول 12 أسبوعاً وتترواح الأسباب بين تشوهات صبغية (كروموسومية) تمنع الجنين من التطور ، اضطرابات في تجلط الدم ، التهابات بكتيرية أو فيروسية ، أمراض مناعية مثل الذئبة أو السكري غير المضبوط.
التشوهات الخلقية
قد تكون بسبب التعرض لأدوية أو كحول أو سموم أثناء الحمل ، عوامل وراثية ، نقص حمض الفوليك أو تعرض الأم لإشعاعات أو أمراض فيروسية (مثل الحصبة الألمانية).
الولادات المبكرة أو الإجهاضات المتكررة
ترتبط أحياناً بمشاكل في عنق الرحم، أو باضطرابات هرمونية، لا علاقة لها بأي كيان خارق.
معظم الحالات يمكن تفسيرها طبياً، لكن في غياب الطب في العصور السابقة، نشأت روايات ماورائية تعوض هذا الغياب وتلبي الحاجة النفسية للشرح.
وفي الختام، يتبين لنا في مفترق الطرق بين الماورائيات والطب الحديث كيف أن الإنسان القديم حاول فهم الغموض من خلال الأسطورة والخرافة، بينما يسعى الطب والعلم الحديث لكشف الأسباب الدقيقة لأكثر المراحل حساسية في حياة الإنسان ألا وهو "الحمل" ، ورغم تقدم العلم، لا تزال بعض النساء في مناطق متعددة من العالم يعلّقن خرزة زرقاء، أو يشعلن بخور الجاوي، تحسباً لزيارة جنية تُدعى "أم الصبيان"... فهل هي مجرد خرافة ؟ أم أن للماورائيات قنوات خفية لم تُكتشف بعد ؟
إقرأ أيضاً ...
- الشلل النومي ( الجاثوم ) Sleep Paralysis
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .