21 يوليو 2025

طائفة بلاكبيرن: حين امتزج الوحي بدم الضحايا

إعداد :  كمال غزال

في تاريخ الطوائف الدينية الغامضة في القرن العشرين، برز اسم فريد لا يشبه سواه: " النظام الإلهي للأذرع الملكية للعظماء الأحد عشر" The Divine Order of the Royal Arms of the Great Eleven ورغم الاسم الذي يوحي بالملائكة والسلام السماوي، فقد ارتبطت هذه الجماعة بسلسلة مروعة من الاختفاءات، القتل الطقوسي، الاحتيال العقائدي، والادعاءات الخرافية.

في هذا التحقيق الكامل، نستعرض القصة الكاملة لهذه الطائفة التي جمعت بين شهوة السلطة الروحية وجنون النبوة، والتي قادتها سيدتان: مي بلاكبيرن May Otis Blackburn وابنتها بالتبني روث ريتزيو Ruth Wieland Rizzio.

التأسيس: نبوءة من السماء أم خدعة على الأرض ؟

عام 1922، في لوس أنجلوس -  كاليفورنيا، ادعت مي بلاكبيرن وروث أن الملكين جبريل وميكائيل قد ظهرا لهما، وطلبا منهما تأليف كتاب يكشف أسرار الكون ونهاية العالم، بعنوان: " الختم العظيم السادس – The Great Sixth Seal " ، زعمتا أن الكتاب يحتوي على رموز ونبوءات لم يُكشَف عنها من قبل و"المقاييس الضائعة" التي ترشد إلى مواقع الذهب والنفط في العالم وتعليمات إلهية تؤسس لمملكة سماوية على الأرض ، وبدأت من هنا نواة الطائفة.


من هم "العظماء الأحد عشر" ؟

جوهر العقيدة كان يقوم على أن مي بلاكبيرن هي الملكة العليا المختارة من السماء، وتحت قيادتها سيتم تعيين أحد عشر امرأة ليصبحن "ملكات روحيّات" يجلسن على عروش مقدسة في المملكة القادمة ، "العظماء الأحد عشر" هم نساء من أتباع الطائفة، مُنحن ألقاباً طقسية مثل: عذراء القيامة ، صوت الملاك جبريل، النبوءة الخامسة ،حارسة الختم ، تم عزل هؤلاء النساء، ومنحن سلطات روحية خاصة، وكان لكل واحدة كوخ مخصص داخل مستعمرة الطائفة، مع طقوس خاصة للتطهير والوصال مع "العوالم السماوية".

سفر الرؤيا : مصدر الإلهام

سفر الرؤيا (The Book of Revelation) هو آخر أسفار العهد الجديد في الكتاب المقدس، ويُعد من أكثر النصوص المسيحية إثارة للجدل بسبب ما يحتويه من رموز غامضة ونبوءات نهاية العالم. يُنسب تأليفه إلى يوحنا الرائي أثناء نفيه في جزيرة بطمس، ويتناول رؤى عن نهاية الزمان، الأختام السبعة، الأبواق، الفرسان الأربعة، معركة هرمجدون، وعودة المسيح لتأسيس مملكته الأبدية.

وقد لعب هذا السفر دوراً محورياً في إلهام الطوائف الدينية المتطرفة، ومنها طائفة " النظام الإلهي للأذرع الملكية للعظيم الأحد عشر"، حيث تبنت زعيمتاها، مي بلاكبيرن وروث ريتزيو، رمزية السفر بالكامل. استندتا إلى فكرة "الختم العظيم" و"النبوءات السباعية"، وادعتا أن كتابهما The Great Sixth Seal هو امتداد سري لسفر الرؤيا، أُوحي به إليهما من الملائكة جبريل وميكائيل، ليكون دليلاً على اقتراب الملكوت وسقوط العالم القديم ، للمزيد إقرأ عن : نهاية العالم في المعتقدات الدينية


المقر المقدس: معبد العرش الذهبي

اشترت الطائفة أرضا ريفية بمساحة 164 فداناً قرب بلدة موربارك، كاليفورنيا، وبنت عليها 12 كوخاً خشبياً لسكن الأتباع ومعبد مركزي مغلق بُني بانتظار مجيء المسيح ، كما أنشئ "عرش المسيح" وهو كرسي ضخم يزن 800 رطل (حوالي 400 كيلوغرام) مطلي بالذهب ومزخرف بمخالب أسد ورأسه ، ووضعت داخل المعبد  مائدة عشاء فخمة، ومصباح على شكل رأس أسد وقالت مي إنه لا يجوز الدخول إليه لأنه "محجوز للرب يوم مجيئه".

الجرائم والفظائع: عندما تتحول النبوءة إلى وحش


البغال قربان للملائكة

في ريف كاليفورنيا الجنوبي، حيث اتخذت الطائفة من المزرعة قرب موربارك معقلا لها، لم تكن الليالي دائما هادئة. في بعض منها، كانت الأرض تشهد ما وصفه الناجون بـ"الذبائح الصامتة" وهي طقوس غامضة يُذبح فيها بغل أو أكثر تحت جنح الظلام، وسط صمت مهيب تتخلله همهمات مبهمة وصلوات بلغة اخترعتها الزعيمة مي بلاكبيرن بنفسها.

طقوس الذبح

كانت الطقوس تُجرى في ساحة حجرية وسط المزرعة تُضاء فيها مشاعل نار على شكل مثلث حول الضحية وترتدي الكاهنات أردية بيضاء ويُطلب من الجميع الحفاظ على الصمت التام ، يُقيّد البغل من الأطراف وتُتلى عليه آيات من كتاب "الختم السادس" ، ويُذبح بطريقة بطيئة، ثم يُجمع الدم في وعاء يُعرف بـ"الكأس النورانية".

الغرض من الطقس

زعمت مي بلاكبيرن أن دماء البغال " أنقى من دماء البشر " وأنها تُرضي الملائكة جبريل وميكائيل وتُفتح بها بوابات "النور الأعظم" الذي ينزل من "النجم الشمالي" ليغمر المزرعة بطاقته ، تم استخدام الدم لطلاء رموز حجرية نُقشت داخل معبد العرش، ورُشّت كميات منه على أبواب الأكواخ التي كانت تسكنها الملكات الأحد عشر.

الجانب النفسي

قد يكون الذبح هنا رمزا لفكرة التطهير القاسي، حيث يُستبدل العنف بالتقديس، وتُبرر الوحشية بطلب "سماوي"، في تكرارٍ منحرف لمفهوم "الذبيحة القربانية" في الأديان التوحيدية ولكن بإخراج مَرَضي دموي ومضلل.


جثة في حوض الاستحمام: انتظار القيامة الذي طال

في أحد منازل أتباع الطائفة في ضواحي لوس أنجلوس، تُوفيت فتاة مراهقة يُعتقد أن اسمها كان فيرونيكا، بعد إصابتها بمرض شديد، ورفض العائلة عرضها على الأطباء، بناء على نصيحة روحانية من روث ريتزيو ، لكن الكارثة لم تكن في موتها، بل في ما حدث بعدها.

الوصية السماوية

روث، التي كانت توصف بـ"الناطقة باسم الملاك جبريل"، زارت العائلة وقالت لهم حرفياً: " لا تدفنوها، فإن الرب سيقيمها في اليوم الثالث أو الأربعين أو الألف، لا فرق… فالجسد يجب أن ينتظر البعث." ، تبعا لذلك تم وضع الجثة في حوض استحمام مملوء بالماء والملح وزهور البنفسج، واحتُفظ بها لعدة أشهر ، كانت العائلة تغير الماء أسبوعياً، وتُقدّم الطعام بجانب الحوض، وتُشعل الشموع في الليل، بانتظار ما سمّوه "نبض القيامة".

النهاية المأساوية

جرى إبلاغ الشرطة  بعد أن اشتكى الجيران من رائحة كريهة تنبعث من المنزل وعند الاقتحام وجد الضباط جسدا متحللا حتى العظم، مغمورا في مياه آسنة ذات لون داكن، ومزينًا ببقايا زهور ذابلة ، كانت الأم تردد: " إنها نائمة... فقط لم تستيقظ بعد." ، روث أنكرت أي مسؤولية، وقالت إنها " نقلت رسالة الملائكة فقط، ولم تُجبر أحداً على شيء."

المرأة التي خُبزت في الفرن

تُعد هذه القصة من أبشع ما ارتكبته الطائفة، وواحدة من أندر الحالات التي تقترب من الحرق البشري الطقسي في العصر الحديث ، الضحية كانت شابة تُدعى لافيرن (LaVerne)، من أتباع الطائفة الصامتين، والتي كانت تُعرف بطاعتها العمياء وخضوعها التام لأوامر مي بلاكبيرن.

بداية المأساة

حسب شهادة منشقين عن الطائفة، بدأت لافيرن تظهر "علامات تمرد روحي"، وتعبّر عن شكوك في وحي الملائكة ، زعمت مي أن "روحًا شيطانية" استوطنتها، وأنها أصبحت "ناقلة طاقة سوداء تهدد الحضور الإلهي".

الطقس الدموي

تم وضع لافيرن داخل صندوق خشبي مُبطّن بالبطانيات ، ووُضع الصندوق في فرن حديدي ضخم كان يُستخدم سابقًا في صناعة الطوب ، وتم إشعال النار من أسفله على مدى عدة ساعات حتى تفحم الصندوق ومن فيه ، سُمي الطقس  لاحقاً بـ"تحرير النور من جسد ملوث"، واعتبرته الطائفة عملاً تطهيريا، بل "قربانا لإنقاذ الملكات الأحد عشر من الشك".

اكتشاف الجريمة

تم العثور على عظام متفحمة لبشر مدفونة خلف أحد الأكواخ في مزرعة موربارك ، والتحقيقات أشارت إلى أنها تعود للافيرن، بناء على تحليل الأسنان وبعض الشهادات، رغم محاولة الطائفة طمس الأدلة.

تحليل

في هذه القصص الثلاث، تتكرر أنماط واضحة : تحويل الجسد إلى مادة روحية قابلة للتضحية أو الانتظار أو الاحتراق وخضوع كامل للأوامر، تحت غطاء ديني منحرف ودمج الرموز الدينية كالقيامة، الذبح، والطهارة مع طقوس سادية ، يُظهر ذلك كيف يمكن للخطاب الديني المشوه أن يبرر أفعالًا تمثل قمة العنف واللا إنسانية، تحت راية "الخلاص الروحي".


الاحتيال المقدس: الذهب مقابل الوهم

من أبرز ضحايا الخداع العقائدي كان رجل الأعمال كليفورد دابني، الذي تبرع بمبالغ ضخمة للطائفة مقابل وعد بالحصول على نسخة من "الختم السادس"، والذي يحوي مواقع الكنوز ، لكن الكتاب لم يُسلّم له قط، واتضح أن الوعد كان وسيلة لجمع أموال الطائفة وحين طالب بأمواله، قيل له: "لقد تدخلت في أمر إلهي، وستدفع الثمن."

زوج "النجم الشمالي": الرسول الصامت


حمل كلود بلاكبيرن، زوج مي، لقب "الرسول القادم من النجم الشمالي"، وزعم أنه يمتلك رؤية فلكية لميعاد مجيء المسيح لكنه كان في الحقيقة مجرد تابع صامت ينفذ تعليمات زوجته، منها حفر الأضرحة ودفن الجثث، ويقال إنه ساعد في تشييد المعالم الحجرية التي كان يُعتقد أنها "ممرات النور".

نهاية الطائفة: المحاكمة والانهيار

في أواخر العشرينيات، وبعد تزايد البلاغات والاختفاءات، فتحت السلطات تحقيقًا شاملاً:

- عُثر على رفات بشرية مدفونة في الأرض.

- ظهرت شهادات عن استغلال النساء والأطفال.

- وُجدت وثائق استثمار وهمية بمئات آلاف الدولارات.

الحكم

أدينت مي بلاكبيرن بتهم الاحتيال المالي، لكنها لم تُدان بتهم القتل لغياب الأدلة الجنائية المباشرة وبعد خروجها من السجن اختفت تمامًا من المشهد العام حتى وفاتها.

الجانب النفسي والماورائي
تشكل الطائفة نموذجا متطرفا لعدة ظواهر نفسية ودينية:

- اضطراب العظمة النبوية (Messianic Delusion)

- الهستيريا الجماعية (Mass Psychosis)

- الاستغلال العقائدي تحت غطاء الخلاص

- كما تستند إلى رموز مستوحاة من سفر الرؤيا والأبوكاليبس، مما عزز طابعها الماورائي المشوّه.


في الثقافة المعاصرة

جرى تناول قصة هذه الطائفة  في برامج وثائقية مثل  Deadly Devotion Cults and Extreme Belief أي " الإخلاص القاتل: الطوائف والمعتقدات المتطرفة" ، وكتب مثل:  The Eleven: The Forgotten Cult of California أي "الأحد عشر : طائفة كاليفورنيا المنسية" أو " ملكة الطوائف " Queen of Cults

جنون النور الزائف

قصة "النظام الإلهي للأذرع الملكية" تطرح تساؤلات مخيفة عن حدود الوهم حين يلبس رداء الوحي ، كيف يمكن للناس أن يسلّموا حياتهم وثرواتهم وسلامهم العقلي لزعيمة تدّعي النبوة ؟ وكيف يمكن أن يُرتكب القتل باسم السماء، دون أن يُسمع صوت الضحايا ؟ إنها ليست مجرد قصة دينية... إنها درس بشري مرعب في حدود الطاعة العمياء، وجنون السيطرة، وضعف الإنسان أمام الوعد الأبدي بالخلاص.


0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ