في قلب سلسلة جبال بلوريدج في شمال غربي ولاية كارولاينا الشمالية بالولايات المتحدة، ينهض جبل منخفض يُدعى “براون ماونتن” (Brown Mountain)، لا يميزه ارتفاعه بقدر ما تميزه ظاهرة غريبة حيرت العلماء والشهود لعقود: كرات ضوء غامضة تظهر ليلاً فوق سفوحه، تطفو في الهواء، تتوهج بألوان متبدلة، ثم تختفي كما ظهرت… بلا أثر ، تُعرف هذه الظاهرة باسم “أضواء جبل براون – The Brown Mountain Lights”، وهي واحدة من أكثر الظواهر الماورائية التي جرى رصدها وتوثيقها في التاريخ الأميركي.
البدايات الأولى للغموض
يُروى أن السكان الأصليين من قبائل الشيروكي (Cherokee) والكاتاوبا (Catawba) شاهدوا هذه الأضواء قبل زمن طويل من وصول الأوروبيين، واعتقدوا أنها أرواح المحاربين القتلى في معركة قديمة تبحث عن طريقها إلى السماء.
لكن التوثيق الحديث بدأ عام 1913، حين كتب أحد المراقبين رسالة إلى جريدة محلية يصف فيها أضواء تظهر فوق الجبل عند الساعة السابعة والنصف مساء ثم تعود في العاشرة ليلاً. انتشرت القصة بسرعة، وتدفقت أفواج الفضوليين إلى المنطقة لمشاهدة ما سيُعرف لاحقاً بـ “أنوار براون”.
وصف المشاهدات
يقول الشهود إنهم يرون كرات مضيئة ترتفع ببطء من سفح الجبل، تتلألأ باللون الأبيض أو البرتقالي أو الأزرق أو الأخضر، وتتحرك أحياناً كأنها تطفو في الهواء على ارتفاع خمسة إلى خمسة عشر قدماً قبل أن تنطفئ تدريجياً.
وفي حالات أخرى، تتسع الأضواء أثناء صعودها ثم تنفجر بلا صوت كما لو كانت ألعاباً نارية خرساء. بعضهم وصفها بأنها تتكرر بشكل عشوائي؛ فقد تمر أسابيع دون أن تُرى، ثم تظهر فجأة في ليلة صافية لتسحر كل من يراقبها من نقاط المشاهدة المشهورة مثل وايزمان فيو “Wiseman’s View” أو “Brown Mountain Overlook”.
محاولات التفسير العلمي
1- تحقيقات القرن العشرين
عام 1922، أرسلت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية (U.S. Geological Survey) فريقاً بقيادة الجيولوجي جورج مانسفيلد للتحقيق في الظاهرة. وبعد أسابيع من الرصد، أعلن مانسفيلد أن معظم الأضواء ليست سوى انعكاسات لمصابيح السيارات والقطارات القادمة من الوديان المجاورة، إضافة إلى حرائق الأدغال التي كانت شائعة في المنطقة آنذاك.
غير أن السكان المحليين لم يقتنعوا؛ فالأضواء شوهدت أحياناً قبل ظهور السيارات في المنطقة، بل إن بعضها شوهد في اتجاهات لا تمتد إليها طرق أو سكك حديدية.
2- فرضية الانكسار الجوي
مع تقدم علم البصريات الجوية، طرح العلماء تفسيراً آخر مفاده أن الضوء الصادر من المدن البعيدة قد ينكسر وينعكس عبر طبقات الهواء البارد والرطب، فيظهر كأنه ينبثق من الجبل نفسه. وقد أثبتت تجارب ميدانية في السبعينيات أن هذه الظاهرة ممكنة فعلاً في ظروف معينة من الضغط والرطوبة، لكنها لا تفسر جميع المشاهدات.
3- فرضية “البرق الكروي” والظواهر الكهربائية
بعض الباحثين اقترح أن ما يُرى في جبال براون هو شكل من كرات البرق (Ball Lightning)، وهي ظاهرة نادرة تنتج عن تفريغ كهربائي في الغلاف الجوي ، بينما آخرون تحدثوا عن احتمال أن تكون الأضواء ناتجة عن شحنات كهربائية أرضية أو غاز الميثان المتوهج الناتج من تحلل المواد العضوية في تربة الجبل، غير أن الدراسات الجيولوجية لم تجد أي نشاط تكتوني أو غازي كاف لدعم هذه الفرضية.
ظاهرة متجددة في عصر الكاميرات
منذ التسعينيات، نصب فريق من جامعة أبالاشيان الحكومية كاميرات مراقبة عالية الحساسية تعمل ليلاً لرصد الأضواء وخلال آلاف الساعات من التصوير، سُجلت حالات عديدة يمكن تفسيرها بسهولة كمصادر بشرية أو انعكاسات ضوئية، إلا أن بعضها القليل - خاصة في عام 2016 - أظهر أضواء تتحرك ببطء ثم تختفي فجأة من دون أي مصدر مرئي أو طيف ضوئي معروف، ما أعاد اللغز إلى الواجهة من جديد.
أضواء هيسدالين : ظاهرة مشابهة ؟
في أقصى وادي هيسدالين بالنرويج، تتكرر منذ ثمانينيات القرن الماضي ظاهرة غامضة تُعرف باسم أضواء هيسدالين، حيث تظهر كرات مضيئة تتحرك ببطء في السماء، تومض بألوانٍ بيضاء وزرقاء وذهبية ثم تختفي بلا صوت.وقد حاول العلماء تفسيرها على أنها بلازما ناتجة عن تفاعلات كهربائية بين المعادن والرطوبة في التربة الغنية بالحديد والكبريت، لكن بعض المشاهدات ما زالت تتحدى التفسير. مثلها مثل أضواء جبل براون، تظل هيسدالين شاهداً على أن الأرض تخفي في أعماقها طاقةً لا تزال تتوهج خارج حدود العلم.
ما بين العلم والأسطورة
رغم كل الدراسات، ما تزال أسطورة أضواء براون حاضرة في الوجدان الشعبي الأميركي ، يقول البعض إنها أرواح خدم وعبيد هاربين ضلوا طريقهم في الغابة، وآخرون يرونها أشباح محاربين هنود، أو حتى كائنات من عوالم أخرى تهبط لزيارة الأرض ، وقد خُلدت الظاهرة في أغان ومسرحيات وأفلام وثائقية، وصارت جزءاً من هوية المنطقة السياحية التي تستقبل الزوار كل عام على أمل أن يشاهدوا الأضواء بأعينهم.
لماذا تبقى بعض الأضواء بلا تفسير ؟
يبدو أن ظاهرة براون ماونتن ليست واحدة موحدة، بل مزيج من مصادر متعددة:
- أضواء بشرية وانعكاسات تُفسر أغلب الحالات.
- ظروف مناخية نادرة تُنتج تأثيرات بصرية مضللة.
- ظواهر كهربائية جوية محتملة لكنها نادرة جداً.
ومع ذلك، يبقى نحو 10% من المشاهدات بلا تفسير قاطع، خاصة تلك التي وثقها أشخاص من مواقع مختلفة في اللحظة نفسها، ما يجعل احتمال الخداع أو التوهم ضعيفاً.
يمكن اعتبار هذه الأضواء تقاطعات طاقية بين طبقات المجال الكهرومغناطيسي الأرضي، حيث تتكثف الطاقة في نقاط محددة على شكل بلازما مضيئة مؤقتة وهي فرضية تتقاطع بين الفيزياء الكمية والمفاهيم الباطنية حول “نقاط البوابة” في الطبيعة.
لماذا تستمر الظاهرة في إثارة الخيال ؟
الجواب بسيط ، لأنها تقع على الحد الفاصل بين العلم والخيال ، إنها تُرى وتُوثق فعلاً، لكنها لا يمكن تفسيرها دائماً، فتُبقي الباب مفتوحاً أمام كل الاحتمالات من الانعكاس الجوي إلى الوجود الطاقي أو حتى الزوار غير الأرضيين ، وفي هذا الهامش الرمادي، تزدهر الأسطورة وتبقى أضواء براون واحدة من الأماكن القليلة التي يستمر فيها المجهول باللمعان في ليل أميركي طويل.
هل تمكن العلماء من حل اللغز ؟
تم تفسير معظم الحالات، ولكن ليس جميعها ، فالظاهرة تبدو مزيجاً بين الواقع الفيزيائي والتجربة الإدراكية والخيال الجمعي ، ومثلها مثل كثير من الظواهر الغامضة في العالم، تبقى أضواء جبل براون تذكيراً بأن حدود المعلوم أوسع مما نظن، وأن ما لا نُدركه بعد… لا يعني أنه غير موجود.
باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".
نبذة عن كمال غزال
باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".




0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .