في عام 1838، تلقّت الأكاديمية الهنغارية للعلوم هدية ثمينة من عائلة "باتياني" الأرستقراطية، تمثلت في مكتبة عائلية ضخمة، لكن من بين الكتب التي ضمتها تلك المكتبة، برز كتاب واحد غير مسار اهتمام الباحثين لعقود ، كتاب غامض لا يحمل عنواناً واضحاً، لكنه بات يُعرف لاحقاً باسم مخطوطة روهونك Rohonc Codex، نسبة إلى المدينة التي عثر عليه فيها أو نُسب إليها.
يتكون هذا الكتاب من 448 صفحة مكتوبة بلغة مجهولة، ويحتوي على قرابة 100 رسمة توضيحية تُظهر مشاهد دينية وعسكرية، تجمع بين عناصر من الثقافات المسيحية والإسلامية والوثنية، ما يثير تساؤلات عميقة حول أصل المخطوطة والبيئة الحضارية التي نشأت فيها.
محتوى الكتاب الغريب
ما يثير الدهشة في "مخطوطة روهونك" ليس فقط اللغة غير المفهومة التي كُتب بها، بل تنوع الرسوم التوضيحية فيه، والتي تظهر جنوداً في معارك، ومراسم دينية، وصليباً بجوار الهلال، بل وحتى رموزاً يُحتمل أنها وثنية. هذه الرسوم توحي بأن المؤلف كان يعيش في منطقة متعددة الديانات والثقافات، ما يرجح أنها كانت في إحدى مناطق البلقان أو حوض الكاربات، حيث تعايشت هذه الديانات تاريخياً.
فرضيات متعددة... ولا إجماع
رغم مرور أكثر من 180 عاماً على اكتشاف المخطوطة، لم تنجح أي محاولة في فك شيفرة النص أو تحديد اللغة المستخدمة فيها. ظهرت العديد من الفرضيات، نذكر أبرزها:
1- خدعة أو هلوسة عقلية
بعض الباحثين يرون أن الكتاب محض خدعة متقنة، ربما قام بها شخص غريب الأطوار أو مريض نفسي، كتب ما يشبه اللغة المختلقة أو الثرثرة البصرية دون معنى حقيقي. لكن هذه النظرية تصطدم بحقيقة أن النص يُظهر نظاماً لغوياً منتظماً وتكرارات يصعب نسبها إلى شخص يكتب بشكل عشوائي.
2- لغة صورية – رمزية
تشير فرضية أخرى إلى أن الكتاب قد كُتب بلغة لوغوغرافية، شبيهة باللغة الصينية، حيث تمثل الرموز أفكاراً كاملة وليس أصواتاً أو مقاطع لفظية ، وقد رُصد بالفعل وجود نحو 800 رمز مختلف في النص، ما يعزز هذه الإمكانية.
3- لغة مصطنعة لأغراض دينية سرية
اقترح بعض الباحثين أن اللغة قد تكون مخترعة من قبل طائفة دينية مضطهدة، أرادت توثيق معتقداتها بشكل لا يمكن كشفه من قبل السلطات ، لكن هذا الطرح يواجه معضلة: لم تُعرف في التاريخ الهنغاري أي طائفة دينية سرية ذات تأثير كبير كانت تستدعي مثل هذا الجهد المعقد لإنشاء لغة كاملة.
4- نص ذو بنية لغوية حقيقية
توصلت دراسات تحليلية أجريت عبر الحاسوب إلى أن النص يخضع لنمط تكراري دقيق، مما يطعن في فرضية "نص بلا معنى" ، كما أن غياب سمات اللغة الهنغارية (مثل النهايات الإعرابية) يؤكد أنه لم يُكتب باللغة المجرية، مما يزيد الغموض أكثر.
المجهول الأكبر: من كتب المخطوطة ولماذا ؟
رغم هذا التنوع في الفرضيات، لا يزال السؤال الجوهري قائماً: من كتب "روهونك" ولماذا ؟
- هل كان راهباً أو مثقفاً من العصور الوسطى حاول توثيق مذهب غير معروف؟
- أم جندياً عاش في منطقة النزاع بين العثمانيين والمسيحيين، وأراد أن يدوّن الأحداث بلغة رمزية ؟
- أم أن الكتاب مجرد عمل فني تخيلي متقن، كتبه شخص عبقري لم يُقدر عصره عمله ؟
- كلها تساؤلات بلا إجابة تبقي مخطوطة روهونك واحدة من أغرب الألغاز الأدبية في أوروبا.
أين توجد المخطوطة اليوم ؟
تُحفظ المخطوطة حالياً في مكتبة الأكاديمية الهنغارية للعلوم في بودابست، وقد خضعت لعدة دراسات، لكن لم يتم نشر صورها أو محتواها بالكامل للجمهور، مما يزيد من هالتها الغامضة ويشجع نظريات المؤامرة حولها.
إن "مخطوطة روهونك" ليست مجرد كتاب، بل هي تحد للعقل البشري، دعوة مفتوحة للتساؤل، ومرآة تعكس حدود معرفتنا وفضولنا، إنها تذكير بأن بعض أسرار التاريخ قد لا تكون مفقودة... بل مشفرة في انتظار من يفك لغزها.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .