في قلب مدينة تلمسان العريقة، حيث تختلط المآذن بالأزقة القديمة، وعبق التاريخ بأصداء الصوفية والأولياء، تبرز شخصية غامضة نسجت حولها المخيلة الشعبية أساطير لا تزال تثير التساؤلات حتى اليوم. إنّها لالة غريبة، المرأة التي تحولت من رمز للتقوى إلى كيانٍ يثير الرهبة والدهشة، يتأرجح حضورها بين الواقع والماورائيات.
خلفية تاريخية
تجمع الروايات أن لالة غريبة كانت امرأة طاهرة اشتهرت بالتقوى والإيمان. دُفنت في حي «القوران» بتلمسان، حيث شُيد مسجد صغير يحمل اسمها، يعرف اليوم بـ «مسجد لالة غريبة». ورغم غياب وثائق دقيقة عن حياتها، ظل المسجد شاهداً على مكانتها، إذ ارتبطت سيرتها بالولاية والبركة، ثم امتدت لتدخل حيز الغيب والأسطورة.
ومن اللافت أن اسم «غريبة» ليس حكراً على تلمسان، بل يتكرر في فضاءات روحية أخرى بالمغرب الكبير، من بينها مسجد بفاس وكنيس يهودي بجزيرة جربة التونسية، ما يعكس حضور الاسم كرمز للغموض والقداسة في المخيلة المغاربية.
طيف أبيض في الليل
أكثر ما يميز حكاية لالة غريبة هو الأسطورة المتناقلة عن ظهورها ليلاً في أزقة الحي القديم. يقول سكان تلمسان إن طيفاً أبيض يتجول بعد الغروب، يراه الأطفال والكبار على السواء، يثير رهبة في النفوس ويشعرهم بوجود ما يتجاوز العالم المرئي.
وتكتمل الأسطورة بما نُسب إلى صوتها الخفي:
- ضحكة هادئة تُعد بشارة خير، تبشر بقدوم رزق أو ولادة أو نجاة من بلاء.
- تنهد أو أنين يُعتبر نذيراً بالشؤم، كسرقة أو حريق أو حتى كارثة طبيعية، بل وقد يرتبط بخطر يهدد أحد الأطفال.
وبحسب كبار السن، فإن نبوءات لالة غريبة لا تخطئ، وإن تجاهلها يعرض المرء لعواقب وخيمة. هكذا تحولت من «ولية صالحة» إلى حارسة روحية للحي، نصفها رحمة ونصفها إنذار.
حكايات تدور حولها
الذاكرة الشعبية تزخر بحكايات يرددها أهل الحي. بعضهم يؤكد أنّه سمع الضحكة الخفيفة في ليالٍ معينة، بينما يحكي آخرون عن أصوات أنين هزت جدران منازلهم. هذه التجارب لم توثق علمياً، لكنها بقيت حاضرة كجزء من «الإيمان الجمعي»، حيث يستحيل على الناس فصل الموروث من الغيبي.
أثرها الثقافي
اليوم، قلما يُسمع ذكر لالة غريبة بين الأجيال الجديدة، بينما يظل كبار السن يذكرونها بخشوع. لا تقام لها طقوس سنوية ولا مواسم، لكن مسجدها الصغير في تلمسان يبقى شاهداً على أسطورة لا تزال تُروى، وإن خفت صوتها. إنها صورة عن كيفية تلاشي الأساطير تدريجياً تحت وطأة التحضر، لتبقى مجرد ذكرى في الذاكرة الجماعية.
الحارسة التي لا تُنسى
قد تكون لالة غريبة امرأة صالحة تحولت سيرتها إلى أسطورة، أو ربما تجلّياً من تجليات المعتقد الشعبي الذي يمزج بين الدين والماورائي. لكنها، في كل الأحوال، تمثل وجهاً آخر لتلمسان: مدينة تجمع بين التاريخ والروح، بين الصوفي والغامض.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .