![]() |
| إعداد : كمال غزال |
أصل الاسم والمنشأ الأسطوري
الاسم مركب من كلمتين غيلتين: Leannán (العشيق/الحبيب) و Sídhe (سكان تلال الجان)، أي «العاشقة من عالم الجنيات».
تُعد من شعب آوس شي Aos Sí الذين تُرجعهم الأساطير إلى نسل «تواثا دي دانان» وقد آثروا العيش في جوف التلال والعوالم المجاورة للبشر.
ومع أن الأسطورة أقدم من العصر الحديث، فقد أعادت «حركة الإحياء السلتي» أواخر القرن التاسع عشر تقديمها بقوة: ذكرتها جين وايلد في سبيرانزا (Speranza) سنة 1887 بصورة ملهمة للشعراء، ثم صاغها ويليام بتلر ييتس (1888) كنسخة «قديمة-جديدة» أكثر ظلمة تُبرز نزعةً "مصاصة طاقة الروح".
كيف تبدو… وكيف تتصرف ؟
في هيئتها يُرى أجمل مما تحتمل العين، كثيراً ما توصف بأنها تتجسد للذي تختاره بالصورة المثالية التي يعشقها، كأنها تنبثق من خياله نفسه ، تبحث عن عاشق بشري، غالباً شاعر أو موسيقي أو رسام فتعرض عليه حباً ووحياً لا ينضبان. القبول يفتح أبواب العبقرية ويغلق في نفس الوقت منافذ النجاة.
أما الثمن هو أن تقتات على حياته فيذوي كما كتب ييتس؛ إلهام متوهج يتبعه نضوب جسدي ونفسي، حتى جنون أو موت مبكر. ولا ينتهي بالموت دائماً، إذ تحبس روحه في عالمها للأبد حسب بعض الروايات.
تُحذر التقاليد الشعبية من العاشق/العاشقة الجنية: قد تجلب مهارات ومعرفة خارقة، لكنها غيورة متملكة، لا تُطيق تقاسم حبيبها مع العالم.
قدمت جين وايلد في فصل «إيوداين الشاعرة» ليانان شي بوصفها «روح الحياة» التي تُلهم الشاعر والمغني، في مقابل الـ« البانشي» نذير الموت؛ مقاربةٌ أكثر إشراقاً تُبرز الحكمة والقوة التي تمنحها للفارس والملك.
بعدها بسنوات، ثبت ييتس الصورة العاصفة: « إذا رفضها صارت عبدته، وإن قبِل صار ملكها… الجنية تعيش على حياتهم وهم يذوون»، مُكرساً ثنائية الإلهام/الفناء التي ستطبع حضورها الحديث.
عبقرية تحترق سريعاً
هي التمثيل الفولكلوري الأوضح لفكرة الملهمة التي تُضيء وتُفني معاً: تُطلق لدى العاشق فيضاً من الشعر والموسيقى واللوحات، ثم تمتص فتيله ببطء. لهذا ارتبطت في المخيال الغيلي بموت الشعراء شباباً : «عِشْ بسرعة… ومت مُلهَمًا».
قراءةٌ نفسية حديثة ترى فيها شخصنة لـ "كُلفة العبقرية" ، إدمان الإلهام، العزلة، الانفصال عن الجسد والعلاقات، وكلها أثمان عرفها مبدعون كُثر عبر التاريخ.
طرق المقاومة… وهل من فكاك ؟
تذكر حكايات مانكسية واسكتلندية قلائلَ نجوا بقوة الإرادة والتعويذات (كالروان الأحمر)، أو بنقل «العهد» إلى بديل يُمسك مكانهم ، خيار مظلم بقدر ما هو نادر، حتى القصص التي تُقر بإمكان النجاة تُصورها مرةً واحدةً في العمر.
بين السكوبوس ومصاصي الدماء
ما الذي يقربها من السقوبة «السكوبوس» ؟ كلاهما أنثى مُغوية تتغذى على الحيوية عبر علاقةٍ جسدية/عاطفية، لكن ليانان شي مُلهِمة تمنح موهبةً فنية مقابل الثمن؛ بينما تُصور السكوبوس في الأدب المسيحي كشيطان غواية لا يُقابل عطاء بإلهام.
أما قربها من مصاص الدماء فمجازي أساساً: «مص الحياة» وذبول الضحية، لا شربُ الدم حرفياً. ولهذا صارت تُلقب في الثقافة الحديثة «مصاصة مواهب» أكثر منها دماً.
حضورها في الثقافة المعاصرة
تظهر ليانان شي في الأدب الخيالي المعاصر وفي سلاسل فانتازيا شعبية مثل ملفات درسدن The Dresden Files كجنية فاتنة من بلاط الشتاء تؤدي دور «العرابة» الساحرة ، تحديث حضري لصورتها القديمة.
في الألعاب نجدها في عالم Shin Megami Tensei/Persona حيث تُقدم كجنية جميلة تلهم الفنان وتستنزف حياته ، تعريف مختصر يطابق جوهر الأسطورة ، كذلك تبنتها عوالم فانتازيا مثل (D&D/Forgotten Realms) حيث تحمل فيها صفة «قبلة الموت» وقدرة تغيير الهيئة.
في الأنمي/المانغا نجدها في The Ancient Magus’ Bride بعين رومانسية مأساوية: تُحب مؤلفاً بشرياً وتُلهمه، لكنها رغم محبتها تستهلك حياته تدريجياً بطبيعتها.
وفي السينما/الفن البصري ألهمت أفالماً وقصائد ولوحات رقمية تُراوغ بين الإغواء والرعب، وتُستعاد دائماً بصفة «الفاتنة المظلمة».
دلالات رمزية وثقافية
- الإلهام المدمر: نموذج تحذيري من الإفراط في الاحتراق الإبداعي؛ هِبةٌ تُكلِّف الجسدَ والعلاقات وربما الحياة.
- الحب المتملك/العلاقة السامة: تقترب من مفهوم «الفاتنة القاتلة» (femme fatale) بما فيها من غيرة واستحواذ وعزل يُفضي إلى انهيار الحبيب.
- بقايا «إلهة إلهام» مُشيطنة: يلمح باحثون معاصرون إلى أنها أثر مُحول لـ ربّة إلهام قديمة جرى «تأديبها» دينياً عبر القرون.
- الجمال بوصفه خطراً جمالياً: «جمالٌ يرعب»، يذكر بتراث الرومنطيقية والقوطية حيث يجتمع السمو مع الافتراس.
- خلود الفن وفناء الفنان: تبقى الأغنية بعد ذهاب المغني… وتبقى «المُلهمة» شاهداً على أن الإبداع قد ينتصر على الموت، ولو بخسائر فادحة.
لماذا تهمنا هذه الأسطورة اليوم ؟
لأنها مرآة دقيقة لتوتر معاصر: كيف نُوازِن بين الإبداع والحياة ؟ بين الوميض الفني والاحتراق ؟ «ليانان شي» ليست مجرد حكاية مرعبة؛ إنها استعارة لعلاقة الإنسان بمصادر وحيه، للتحالف الخطر مع قوى الجمال حين تتحول إلى استحواذ.
وربما لهذا تعود الأسطورة مراراً في الكتب والألعاب والشاشات: إذ تُجسد السؤال الدائم للفنان والعاشق معاً - كم من روحك ستدفع مقابل الإلهام ؟
نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".



0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .