في قلب صعيد مصر، حيث تمتزج العادات القديمة بالإيمان العميق تقع قرية صغيرة تُدعى بني حلوة، على بعد بضعة كيلومترات من مدينة البلينا في محافظة سوهاج.
ورغم بساطتها كقرية ريفية مصرية أصيلة، إلا أنها اشتهرت على مدار العقود الماضية بأسطورة غامضة لا تزال تُروى همساً بين السائقين والمسافرين: أسطورة الماعز الشيطاني، الذي يُقال إنه يظهر فجأة في منتصف الطريق، متسبباً بسلسلة من الحوادث القاتلة التي حوّلت مدخل القرية إلى ما يشبه “البقعة المشؤومة”.
طريق تحيطه الرهبة
يروي الأهالي أن معظم الحوادث المرورية على طريق البلينا–جرجا تقع تحديداً أمام مدخل قرية بني حلوة، حتى صار ذكر اسمها كافياً ليثير القشعريرة في نفوس السائقين.
ومع تكرار الحوادث الغامضة، شاع بين الناس أن هناك ماعزاً أسود غريب الشكل يظهر من العدم في عرض الطريق، فيفقد السائق السيطرة على سيارته وينتهي به المطاف في الترعة المجاورة أو بالتصادم المميت مع مركبة أخرى.
بل إن بعض السائقين يؤكدون - بعد نجاتهم بأعجوبة - أنهم شاهدوا هذا الماعز الأسود بعينهم، وهو يخرج من الأرض بخطوات وئيدة، محدقاً في السيارة قبل أن تقع الكارثة. وبمرور الوقت، أصبح ذكر اسم “بني حلوة” كافياً ليدفع كل من يمر بالطريق إلى التبسمل والدعاء سراً: “اللهم سلمنا”.
شهادات متواترة وحوادث متكررة
وفق ما رُوي عبر عقود، فإن عدداً من السائقين الناجين من حوادث في تلك المنطقة أكدوا رؤية هذا الماعز الأسود قبل لحظات من الاصطدام، بينما روى آخرون أنهم شعروا بشيء يمر أمامهم في الظلام دون أن يروا بوضوح ما هو ، ورغم غياب أي دليل مادي أو تصويري، فإن تكرار الحوادث في نفس النقطة رسخ في أذهان الأهالي فكرة أن هناك “شيئًا” خفيًا يقف وراء هذه المآسي.
ومن بين الحوادث الحديثة التي أعادت القصة إلى الواجهة، حادث تصادم مروع وقع في يناير 2022 أمام قرية بني حلوة، وأسفر عن إصابة تسعة أشخاص. ورغم أن التقارير الرسمية عزت السبب إلى فقدان السيطرة والسرعة الزائدة، إلا أن أبناء المنطقة أضافوا الحادث إلى سجل “لعنة الماعز الأسود”، كما يسمونها.
جذور الأسطورة: بين الواقع والرمز
الأسطورة نفسها ليست جديدة، إذ تناولها عدد من الكتّاب ضمن الأدب الشعبي المصري. من بينهم الكاتبة منال عبد الحميد، التي نشرت في عام 2010 قصة قصيرة بعنوان “
الماعز الشيطاني” في موقع ما وراء الطبيعة، وأشارت فيها إلى أن القصة مستوحاة من حكايات متداولة فعلاً في محافظة سوهاج. وهكذا انتقلت الأسطورة من التناقل الشفهي إلى الفضاء الإلكتروني، لترسخ مكانتها كإحدى أغرب خرافات الصعيد.
ويرى باحثون في الفلكلور أن هذه الأسطورة تحمل رمزية نفسية أكثر من كونها واقعية؛ فهي استجابة إنسانية لفهم المجهول. عندما تتكرر الحوادث في نفس المكان دون تفسير واضح، يبحث الناس عن معنى، فيجدونه في الأسطورة.
احتمالات التفسير العلمي
لا يوجد أي دليل علمي يؤكد وجود “ماعز شيطاني” يخرج من باطن الأرض، لكن يمكن تفسير الظاهرة بعدة عوامل واقعية:
1- عيوب هندسية في الطريق
الطريق عند مدخل بني حلوة ربما يحتوي على منعطف حاد أو تقاطع غير مرئي أو نقص في الإضاءة، ما يجعله خطراً خاصة في الليل. هذه العوامل كافية لتفسير تكرار الحوادث دون أي تدخل خارق للطبيعة.
2- ظهور حيوانات حقيقية
من الممكن أن يكون ما رآه السائقون هو ماعز أو كلب حقيقي يعبر الطريق ليلاً، خصوصاً أن الماشية تُترك أحياناً طليقة في الريف. اللون الأسود يجعل رؤيتها شبه مستحيلة في الظلام، ما يؤدي لحوادث مأساوية.
3- الإيحاء الجماعي
عندما تنتشر الحكاية، يصبح الناس مستعدين نفسياً لرؤية ما يتوقعونه. أي ظل أو حركة غامضة في الظلام يمكن أن تثير الوهم بوجود “الماعز”، خصوصاً عند القيادة بسرعات عالية.
4- المعتقدات الشعبية
في التراث العربي والمصري، يُعتقد أن الجن قد يتشكلون في هيئة حيوانات سوداء كالكلاب أو الماعز. كما يُستخدم الماعز الأسود في بعض طقوس السحر، ما جعل اللون نفسه رمزاً للرعب والخفاء في المخيلة الشعبية، إقرأ المزيد عن
استخدام الحيوانات في السحر.
الماعز الأسود في رمزية الثقافة والسحر
يرتبط الماعز الأسود في الفلكلور العربي والعالمي برموز القوة المظلمة والقرابين. ففي بعض الممارسات السحرية القديمة يُستخدم دم الماعز الأسود في طقوس “التحصين” أو استحضار الأرواح. كما ظهر رمز الماعز في الأساطير الغربية بشخصية
بافومت، الذي يمثل الاتحاد بين الإنساني والحيواني والشيطاني.
هذه الخلفيات الثقافية جعلت فكرة “ماعز شيطاني يظهر ليلاً” مقبولة ومخيفة في آن واحد، خصوصاً في المجتمعات الريفية التي ما تزال تعيش على تخوم المعتقد والأسطورة.
ما بين الخرافة والحقيقة
تُظهر دراسة هذه القصة كيف تتكون الأسطورة الشعبية من حوادث واقعية تُفسَّر بعين الخيال. لا شك أن الطريق شهد حوادث مؤلمة بالفعل، لكن تفسيرها بوجود كائن خارق هو جزء من طبيعة الإنسان في مواجهة المجهول. فالخوف يولّد الحكاية، والحكاية تخلد الخوف ، ولا يزال كثير من السائقين إلى اليوم يخفضون السرعة عند مدخل بني حلوة ويتمتمون بالأدعية، ليس لأنهم متأكدون من وجود الماعز، بل لأن الأسطورة نفسها أصبحت جزءاً من تقاليد الطريق مثل طقس غير مكتوب للسلامة.
حين يصبح الخيال مرآة للواقع
قصة ماعز بني حلوة تذكير بأن الخيال الشعبي ليس مجرد خرافة، بل وثيقة حية عن علاقة الإنسان بالبيئة والموت والمجهول. فهي تجمع بين الواقع المادي (الحوادث الحقيقية) والرمز الثقافي (الحيوان الأسود كجسد للشر)، لتخلق أسطورة تجمع الخوف بالحكمة، والتحذير بالإيمان.
قد لا يكون هناك ماعز شيطاني يخرج من الأرض، لكن هناك طريق خطِر يحتاج إلى إصلاح، وأرواح فقدت حياتها عليه، وذاكرة جماعية اختارت أن تُلبس المأساة وجهاً أسود لتفهمها ، وهكذا تبقى بني حلوة بين الأسطورة والحقيقة... قرية صغيرة يخشاها العابرون، ويؤمن بها الحالمون، وتعيش في وجدان أهلها كرمز للغموض الذي لا يزول.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .