منذ فجر التاريخ، ارتبط الضباب في الوجدان الإنساني بعوالم الغيب، وكأن الطبيعة حين تلبس ثوبها الرمادي تصبح أقرب إلى البرزخ منها إلى الأرض.
ففي اللحظات التي تتكاثف فيها الرطوبة وتذوب الخطوط بين ما هو منظور وما هو مخفي، يظهر للإنسان شيء أعمق من الرؤية: تجليات تتأرجح بين الوهم والحقيقة، بين الخوف والدهشة.
الضباب كستار بين العالمين
عندما يهبط الضباب على السهول أو فوق المقابر أو أطراف الغابات، يتحول المكان إلى فضاء صوفيّ غامض. لم يكن عبثاً أن تُسمّي الأساطير القديمة هذا الوقت بـ“ساعة الأرواح”، إذ اعتقد السلتيون واليونان والرومان أن الأرواح تسير في الأرض حين يلتقي الهواء بالماء في الفجر البارد.
وفي العصور الوسطى الأوروبية، كان الرهبان يسجلون مشاهدات “أطياف نورانية” فوق الأديرة بعد العواصف، وغالباً ما تكون مصحوبة بضباب كثيف؛ فاعتبروا ذلك علامات إلهية. بل إن بعض الحوليات الكنسية في القرن الثالث عشر تحدثت عن فرسان طيفيين شوهدوا يعبرون الوديان، وهي ظواهر يُرجح اليوم أنها ناتجة عن ما يسمى في الفيزياء الجوية بـ“شبح بروكن” Brocken Spectre أي انعكاس ظل الإنسان العملاق على الضباب بفعل الشمس من خلفه، فيبدو كأنه كيانٌ سماوي عملاق.
تجارب الناس
في العصر الحديث، لا يزال الضباب يصنع أساطيره الخاصة. كثير من الزوار الذين قصدوا ميدان غيتيسبيرغ الأميركي، أو غابات إدلبورغ في إنجلترا، أو جبال فوجي في اليابان، تحدثوا عن ظلالٍ بشرية تتحرك داخل الضباب وتختفي، عن همسات غامضة، وخطوات تُسمع بلا صاحب.
هذه التجارب الحسية الملتبسة كثيراً ما تحدث في ظروف انخفاض الرؤية والهدوء الصوتي، حيث يزداد تركيز المخيلة على أي منبه بصري أو صوتي صغير، فيحوله إلى صورةٍ مكتملة الملامح
من التجارب التي سُجلت في القرن التاسع عشر في بريطانيا، حكاية حارس منارة كتب في مذكراته أنه “كان يرى رجلاً يقترب من البحر في كل صباح ضبابي، ثم يختفي قبل أن تلامس الموج قدميه”، وقد فُسرت بعد قرن بأنها خداع بصري ناتج عن تكرار صورة الظل عبر طبقات الرطوبة.
العقل والضباب
من الناحية النفسية، يمكن تشبيه الضباب بـ“الضجيج الأبيض” في المجال السمعي. فكما يملأ الصوت المستمر الفراغ في الأذن، يملأ الضباب الفراغ البصري في العين. عندما تتعطل وضوح الصورة، يبدأ الدماغ في “تخمين” ما يمكن أن يكون هناك — وهي عملية عصبية تسمى الملء الإدراكي Perceptual Filling-in.
في تلك اللحظة، تتحول الرؤية إلى حقل مفتوح للإسقاطات الداخلية: صور من الذاكرة، مخاوف دفينة، أو حتى وجوه مألوفة. ولهذا يمكن أن يرى الإنسان في الضباب شخصاً يعرفه أو طيفاً تاريخياً أو كائناً لا يُعرف أصله.
العلماء النفسيون يسمون هذه الظاهرة “الباريدوليا المرئية” (Visual Pareidolia)، أي ميل الدماغ لتكوين أنماط ذات معنى من أشكالٍ مبهمة. وهكذا يصنع العقل شبحه الخاص من غلالة الطبيعة.
الحرمان الحسي وتضخيم الخيال
في البيئات التي يُحجب فيها الضوء والصوت - مثل الليالي الضبابية أو داخل أنفاقٍ مليئة بالدخان - يحدث ما يُعرف بـ الحرمان الحسي (Sensory Deprivation)، وهو وضع يجعل الدماغ يملأ الفجوات الحسية بتصورات داخلية.
الجنود في الحربين العالميتين الأولى والثانية تحدثوا عن “مواكب من أرواح الرفاق” في ليالي الضباب الكثيف. وفي علم الأعصاب، نُلاحظ أن قلة المحفزات الخارجية تنشط الفص الصدغي المسؤول عن الصور الذهنية، ما يُنتج هلوسات خفيفة تبدو واقعية تماماً.
أشباح معركة غيتيسبيرغ
يُقال أن غيتيسبيرغ لم تبرأ قط من جراح الحرب التي سالت على ترابها، وأن أرواح المقاتلين الذين سقطوا فيها ما زالت تائهة في ضبابها حتى اليوم.
في الليالي الرطبة، حين يتكاثف الضباب على التلال والمزارع المحيطة بالميدان القديم، يشهد بعض الزوار مشاهد غريبة: كتائب شبحية تتحرك في صمت، ظلال رجالٍ بقبعات زرقاء تتقدم ببطءٍ بين الأشجار، وصوت حوافرٍ يخترق الغمام دون أن يُرى حصان. يختلط دخان البارود القديم بغيوم الرطوبة الجديدة، فتغدو الحقول أشبه بشريط من الزمن المنكسر، تظهر فيه الأطياف كما لو أنها مقطوعة من لحظةٍ لم تنتهِ بعد. إقرأ المزيد عن أشباح مقاتلي غيتيسبيرغ
في الليالي الرطبة، حين يتكاثف الضباب على التلال والمزارع المحيطة بالميدان القديم، يشهد بعض الزوار مشاهد غريبة: كتائب شبحية تتحرك في صمت، ظلال رجالٍ بقبعات زرقاء تتقدم ببطءٍ بين الأشجار، وصوت حوافرٍ يخترق الغمام دون أن يُرى حصان. يختلط دخان البارود القديم بغيوم الرطوبة الجديدة، فتغدو الحقول أشبه بشريط من الزمن المنكسر، تظهر فيه الأطياف كما لو أنها مقطوعة من لحظةٍ لم تنتهِ بعد. إقرأ المزيد عن أشباح مقاتلي غيتيسبيرغ
يعتقد الباحثون في الظواهر الخارقة أن الضباب في غيتسبرغ ليس مجرد عامل جوي، بل وسيط طاقي يُعيد تشكيل الصور المحفوظة في ذاكرة المكان، بينما يرى النفسيون أنه ببساطة يحجب الحدود بين ما هو حقيقي وما هو مُتخيل، فيمنح العيون المنهكة والخيال المشحون فرصة لرؤية ما تُريد أن تراه: الجنود الذين لم يغادروا ساحة المعركة بعد.
ما يشبه الضباب… الدخان والغبار والعواصف
ليس الضباب وحده القادر على فتح بوابة الوهم. الدخان الناتج عن الحرائق أو المعارك يخلق نفس الظروف: حرارة، جزئيات معلقة، وتلاعب بالضوء، تجعل الأشكال تتراقص كأطياف.
أما الغبار الكثيف في الصحارى فيمكنه أن يصنع سرابات أشبه بالتجليات، وهو ما سجله الرحالة القدماء كـ“أرواحٍ تسير على الأفق”. حتى الثلج المتطاير أو العواصف الرملية لها التأثير نفسه في تعطيل الحواس وإحياء الخيال.
الضباب كمصدر الهام في أدب الرعب
من بين عناصر الطبيعة التي أسرت خيال كتّاب أدب الرعب، لا يكاد شيء يضاهي الضباب في قدرته على إثارة الرهبة والإيحاء بالمجهول. فهو ليس مجرد خلفية جوية، بل شخصية سردية قائمة بذاتها في قصصهم؛ كائن متحول يخفي بين طبقاته ما لا يُرى.
منذ بدايات القرن التاسع عشر، أدرك الأدباء أن الضباب هو الحجاب المثالي بين العالمين - عالم الأحياء وعالم الظلال - فاستثمره كتّاب مثل إدغار آلان بو، وبرام ستوكر (صاحب رواية دراكولا) ، ولحقهم ستيفن كينغ، ليخلقوا أجواء تُشعر القارئ بأن شيئاً فظيعاً على وشك أن يخرج من وراء الستار الرمادي.
في رواية Dracula كان الضباب يزحف كامتداد لإرادة مصاص الدماء، وفي The Mist لستيفن كينغ كان هو الكائن نفسه، الغطاء الذي يُخفي وحوشاً من بعد آخر. وهكذا، أصبح الضباب رمزاً لما لا يمكن إدراكه، مادة خصبة للمخيلة الماورائية التي تجد فيه مرآة للغموض الإنساني والخوف من المجهول؛ فكلما ازداد سُمكه، انفتح باب جديد للكوابيس التي تسكن الأدب والخيال.
بين العلم والأسطورة
رغم التفسير العلمي الواضح، لا يمكن إنكار أن للضباب سحراً يتجاوز الفيزياء. هو المزيج النادر بين الضوء والماء والسكينة، الذي يجعل الإنسان يشعر أنه في حافة عالمين.
وفي كل ثقافة - من الصينيين الذين اعتقدوا أن الأرواح تسافر في الضباب، إلى العرب الذين وصفوه بأنه “نَفَسُ الجنّ” ظل هذا العنصر الغامض رمزاً للتجلي، والحدّ الفاصل بين الماوراء والمرئي.
الضباب ليس مجرد ظاهرة جوية، بل مرآة للخيال البشري. إنه يعلمنا كيف يمكن لعقولنا أن ترى ما ترغب أن تراه، وكيف أن الغموض، حين يحجب العالم، يفتح أبواباً أخرى للرؤية.
وبينما يصرالعلماء على تفسير كل ظل فيزيائي بالضوء والرطوبة، يصر الإنسان، منذ القدم وحتى اليوم، على أن في الضباب شيئًا أكثر من البخار… روحاً تتنفس وتنتظر أن تُرى.
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .