18 أكتوبر 2025

ذات الثقب وذو الكفن : وجهان للرعب في أساطير اندونيسيا

سونديل بولونغ وبوكونغ - شبحان من الأساطير الاندونيسية
إعداد : كمال غزال
ُتُعد الأساطير الشعبية مرآة دقيقة لما يعتمل في وجدان المجتمعات من هواجس وقيم، بل ويمكن القول إن الشبح - بصفته كيان من بعد آخر يتوسط الحياة والموت – يمثل أحد أكثر التجليات كثافة في تصوير القلق الجمعي، والاضطراب الأخلاقي، والمخاوف الوجودية. 

وفي جنوب شرق آسيا، وتحديداً في إندونيسيا، لا تزال الأساطير الحية تتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، ويأتي على رأسها كيانان أثريا المخيلة الشعبية لعقود: سونديل بولونغ Sundel Bolong والبوكونغ  Pocong ، شبحان يبدوان متناقضين في الهيئة، غير أنهما يتقاطعان عند حدود الخوف والرمز، ويشكلان تمثيلين بصريين واجتماعيين لمفاهيم الطهارة والخطيئة، العقوبة والتحرر، في مجتمع تتشابك فيه المعتقدات الدينية بالتراث المحلي.


سونديل بولونغ :  شبح المرأة ذات الثقب

ينحدر اسم "سونديل بولونغ" من اللغة الجاوية، إذ تعني كلمة "سونديل" "امرأة سيئة السمعة" أو "عاهرة"، فيما تشير "بولونغ" إلى "الثقب". ومن هذا التداخل اللغوي، تنشأ شخصية شبحية ذات بعد درامي حاد: امرأة شابة جميلة، ماتت في ظروف مأساوية متعلقة بالحمل غير الشرعي، وتحوّلت إلى شبحٍ هائم يسكن العتمة ويبحث عن الانتقام.

تظهر سونديل بولونغ عادة بثوب أبيض طويل، وشعر أسود كثيف يغطي ظهرها، وعينين حزينتين. غير أن أكثر ما يميزها هو ثقب كبير في ظهرها، يُقال إن الطفل خرج منه عند الولادة في القبر. هذا الثقب ليس تفصيلاً جسدياً فحسب، بل هو رمز ساطع للعار الذي لم يجد طريقه للتكفير، ولحالة الانكسار الاجتماعي الذي خلفه العنف أو الهجر أو الخطيئة في مجتمعات تُعاقب الأنثى قبل أن تحاكم الجاني.

الأسطورة والسلوك

وفقاً للروايات الشعبية، تسكن سونديل بولونغ الأشجار الكثيفة، والأزقة المهجورة، وتستهدف رجالًا فرادى، تغريهم بهيئتها الجذابة ثم تنتقم منهم شر انتقام. يُقال إنها تهاجم من يسخر منها، وتُخصي من يستهزئ بمأساتها، بل وتخطف الأطفال لتعويض جنينها المفقود. 


في إحدى نسخ الحكاية، لا تستكين روحها إلا إن قام أحدهم بطعن مؤخرة عنقها بمسمار، وهو ما يحولها إلى امرأة عادية. ويبدو هذا الحل الرمزي وكأنّه محاولة "لاستعادة السيطرة" الذكورية على المرأة الجامحة، بما يحمل من تأويلات تتقاطع مع الهوس الاجتماعي بتهذيب الأنوثة.

سونديل بولونغ في الفن الشعبي

منذ فيلم "Sundel Bolong" عام 1981 وحتى اليوم، حضرت هذه الشخصية في السينما الإندونيسية كأيقونة رعب، تُستدعى حين يُراد خلق توازن بين الإثارة والغموض. كما ظهرت في ألعاب الفيديو مثل DreadOut، وفي الرسوم التوضيحية التي تباع في الأسواق المحلية. وتحظى هذه الشخصية بشعبية خاصة في الحكايات التي تُروى للأطفال بهدف ترسيخ "الفضيلة" عبر التخويف.



البوكونغ : شبح ذو الكفن

ينطلق البوكّونغ من طقوس الدفن الإسلامية في الأرخبيل الإندونيسي، حيث يُلفّ جسد الميت بكفن أبيض يُربط من ثلاث نقاط: الرأس والخصر والقدمين. ويُفترض فك الرباط العلوي بعد الدفن ليتحرر الميت. فإذا أُهمل ذلك، يُعتقد أن روحه تظل حبيسة الجسد، وتعود على هيئة "بوكّونغ"، شبح مكفّن لا يظهر منه سوى وجه شاحب، وعينان جامدتان.

الهيئة والحركة

يظهر البوكونغ بهيئة جثة مقيدة لا تستطيع المشي، ولهذا يقفز أو يطفو في الهواء. ورغم مظهره المخيف، لا يُصنف عادة ككائن شرير، بل هو رسالة صامتة من ميت لم يُستوف حقّه الطقسي. 

وتُعد رؤيته نذيراً بوجوب أداء الشعائر الناقصة، لا سبباً للعقاب أو اللعن. في بعض الروايات، قد يبصق البوكونغ مادة لزجة كريهة تُحدث إغماءً، لكن نياته تظل أقرب للطلب منها للتهديد.



حضور البوكونغ في المخيلة العامة

يُعد البوكونغ أكثر الأشباح شيوعاً في الثقافة الشعبية الإندونيسية، إلى درجة ظهوره المتكرر في أفلام الرعب والتلفزيون والمقالب الكوميدية. وقد بلغ حضوره ذروته الطريفة حين استعان به متطوعو قرية في جاوة عام 2020 لإقناع السكان بالبقاء في بيوتهم خلال الحجر الصحي، حيث لبسوا أكفاناً وخرجوا ليلاً لترهيب المخالفين، في توظيف معاصر للرمز التقليدي من أجل غاية اجتماعية.

تحليل رمزي: بين الذنب والطهارة

تكشف سونديل بولونغ عن قلق اجتماعي عميق تجاه المرأة "المنبوذة"، بينما يُجسد البوكونغ مأزقاً روحياً حول الموت الناقص. كلاهما يرتبطان بنقص في أداء "الواجب": أحدهما واجب المجتمع تجاه المرأة، والآخر واجب الأحياء تجاه الميت. 

يظهر الأول بصورة مخلة جمالياً وجنسياً، والثاني بصورة جامدة مكبلة. وإذا كانت سونديل بولونغ تثير الذعر عبر جسد مخترق بالعار، فإن البوكونغ يثيره عبر جسد محاصر بطقس لم يكتمل. وبهذا، يصبح كل منهما رمزاً لمظلومية صامتة تتجسد في هيئة كيان ما بعد الحياة، يطالب بالعدالة لا بالانتقام.

ما تقوله الأشباح عنا

ليست هذه الأشباح مجرد كيانات مخيفة تُروى قصصها على سبيل الترفيه أو الترهيب؛ إنها تثير أسئلة أكثر عمقاً: كيف يتعامل المجتمع مع المرأة حين تخرج عن السياق؟ كيف يواجه الموت، وهل يرضى برحيل من لم يُودع كما ينبغي ؟ في سونديل بولونغ والبوكونغ، تقف إندونيسيا على حافة الماضي والحاضر، على تقاطع الدين والأسطورة، في محاولة مستمرة لتفريغ الخوف من خلال الصورة، ومنح الذنب صوتاً بعد الموت. إنهما، ببساطة، صوتان للضحية: واحدة خُذلت في حياتها، وآخر أُهمل في مماته. وكلاهما، في صمته أو صراخه، يطالب بأن يُصغى له.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ