الرونيات: لغة السحر والعرافة في عصور الفايكنغ

إعداد : كمال غزال

في أعماق شمال أوروبا، نشأت حضارة حملت الكثير من الغموض والأساطير، حضارة أنجبت محاربي الفايكنغ وكهنتهم وحكماءهم الذين آمنوا بأن الكون محكوم بقوى خفية، يمكن مخاطبتها والتأثير فيها عبر رموز مقدسة تُعرف باسم الأحرف الرونية (Runes).

هذه الرموز لم تكن مجرد حروف للكتابة، بل كانت لغة غامضة تتصل بالآلهة والطبيعة، تُستعمل في السحر والعرافة، ولها قوة يعتقد الممارسون أنها قادرة على جلب الحظ أو الدمار، الحماية أو اللعنة.

اليوم، وبعد قرون من اندثار استخدامها التقليدي، ما زال الناس حول العالم ينجذبون إلى هذه الرموز، سواء لدراستها تاريخياً، أو استخدامها في طقوس روحية وعرافة شبيهة بـ التاروت، أو حتى كوشوم تحمل معاني عميقة. في هذا المقال سنغوص في عالم الرونيات، نكشف أسرارها، معانيها، وأبرز طرق استخدامها في الماضي والحاضر.

نشأة الأحرف الرونية وأصولها

تعود أقدم النقوش الرونية إلى حوالي القرن الثاني الميلادي، وقد استخدمتها القبائل الجرمانية في مناطق تمتد بين الدانمارك، النرويج، السويد، وألمانيا ، يُعرف النظام الروني الأقدم بـ إيلدير فوثارك Elder Futhark، ويتكون من 24 رمزاً، لكل منها اسم ومعنى مرتبط بعنصر من عناصر الطبيعة أو الحياة.

تروي الأساطير الإسكندنافية أن الإله أودين (Odin) سيد الآلهة، هو من اكتشف الرونيات بعد أن ضحى بنفسه، معلقاً جسده على شجرة العالم "يغدراسيل (Yggdrasil)" لمدة تسعة أيام وتسع ليالٍ، حتى كُشف له سر الرموز ، وقد اعتُبرت هذه القصة دليلاً على أن الرونيات ليست مجرد حروف، بل قوة سماوية مُنحت للبشر.

الرونيات كرموز طاقية وسحرية

كانت الشعوب الإسكندنافية تؤمن أن الرونيات ليست وسيلة للتواصل فقط، بل هي بوابات للطاقة الكونية ، كل رمز يحمل ذبذبة خاصة، واستخدامه بطريقة معينة قد يفتح قنوات مع قوى الطبيعة أو الأرواح.

لم تكن الرونيات مجرد حروف، بل رموز طاقية استخدمها السحرة والكهنة:

نقش التعاويذ: كانوا ينقشونها على الأسلحة، الدروع، القبور، أو التمائم لجلب الحظ أو الحماية.

طقوس السحر: دمج الرونيات في طقوس لاستدعاء قوى الطبيعة أو الأرواح.

حماية المحاربين: يعتقد أن بعض الرونيات كانت تحمي المقاتلين في المعارك، مثل رون Algiz الذي يرمز للحماية الروحية.

في الطقوس السحرية يجري دمج عدة رموز في شكل واحد لخلق طاقة مركبة والرمز الناتج من الدمج يسمى الرونبند Bindrune ، الهدف منه توحيد نوايا متعددة في رمز واحد، مثل الحماية وجذب الثروة في الوقت نفسه ، كان الدمج يتم بعناية فائقة، لأن وضع الرموز بشكل خاطئ قد يؤدي لنتائج عكسية ، مثال على ذلك : دمج Algiz (الحماية) مع Fehu (الثروة) لخلق تعويذة تجلب المال وتحميه من السرقة أو الضياع. 

الاستخدامات السحرية القديمة

الحماية

كان المحاربون ينقشون رموزاً مثل Algiz (ᛉ) على دروعهم وسيوفهم لدرء الأرواح الشريرة ومنحهم القوة في القتال.

التعافي والشفاء

كان الكهنة يعتقدون أن بعض الرونيات تساعد على شفاء الأمراض، فينقشونها على قطع خشبية توضع قرب المريض.

اللعنات والسحر الأسود

بعض الرموز مثل Thurisaz (ᚦ) استخدمت في طقوس الانتقام أو جلب الدمار.

التنجيم والتنبؤ

قبل المعارك أو السفر، كان يتم إلقاء الرونيات بطريقة تشبه رمي العظام، لمعرفة المستقبل أو مصير الرحلة.

الرونيات في العرافة الحديثة

اليوم، أصبحت الرونيات أداة شهيرة في قراءة الطالع، تماماً مثل أوراق التاروت ، يعتمد هذا الاستخدام على مبدأ أن الرمز الذي يُسحب عشوائياً يمثل رسالة من العقل الباطن أو من القوى الكونية.

خطوات قراءة الرونيات

مجموعة الرونيات

تتألف عادة من 24 رمزاً منقوشاً على أحجار أو خشب، وأحياناً تُضاف قطعة فارغة تُسمى "الرون المجهول".

طرح السؤال

يركز الشخص على سؤال محدد حول الحب، العمل، الصحة، أو القرار المصيري.

سحب الرموز

يتم اختيار رمز واحد أو أكثر، أو إلقاء عدة رموز على قطعة قماش.

التفسير

لكل رون معنى إيجابي إذا ظهر مستقيماً، ومعنى سلبي إذا ظهر مقلوباً.

مثال

Fehu (ᚠ): يرمز للثروة والنجاح.

Hagalaz (ᚺ): يشير للفوضى والكوارث.

Ansuz (ᚨ): يدل على الحكمة والتواصل الروحي.

قصص حقيقية عن الرونيات

هناك العديد من القصص الواقعية التي تتعلق باستخدام الرموز الرونية، بعضها موثق تاريخياً في السجلات الإسكندنافية، وبعضها حديث، خصوصاً مع انتشار عصر الوثنية الجديد (Neo-Paganism) وطقوس مثل الفودو الأوروبي والويكا Wicca.

هذه القصص تتراوح بين استخدامات تقليدية قديمة في الفايكنغ وبين حالات حديثة رُويت في العصر المعاصر :

1- في الشفاء -  إيغيل والرونيات

ورد في ساغا إيغيل (من القرن العاشر) أن محارباً يدعى إيغيل سكالاغريمسون عالج فتاة كانت تعاني من مرض غامض ، اكتشف أن شخصاً وضع قطعة خشب تحت سريرها منقوشة برموز سحرية ضارة ، قام بحرق القطعة ورسم رونيات الحماية، فشُفيت الفتاة بعد أيام، مما عزز الاعتقاد بقوة هذه الرموز.

2- في الحرب - رونيات النازية

في صفوف قوات النخبة شبه العسكرية النازية SS ، كان بعض الجنود يحملون تمائم منقوشة بـ رون Sowilo (ᛋ) الذي أصبح شعار المنظمة ، كانوا يعتقدون أن الرمز يمنحهم الحماية والشجاعة، وبعض الضباط كانوا يستخدمون رونبندات (دمج روني)  خاصة كتعويذات حرب.

3- في الحب - قصة فتاة أمريكية (1998)

امرأة أمريكية تُدعى جيسيكا هـ. نشرت تجربتها في كتاب عن الويكا:

كانت تعيش علاقة حب معقدة، ولجأت إلى كتاب عن السحر الروني ، صنعت رونبند للحب يتكون من Gebo (ᚷ) وWunjo (ᚹ) وBerkano (ᛒ)، ونقشته على قطعة خشب صغيرة ، كانت تضع القطعة تحت وسادتها وتكرر طقوس شحنها لعدة أسابيع ، بعد فترة قصيرة، دخل رجل جديد حياتها وأصبحت العلاقة بينهما قوية بشكل غير معتاد ، لاحقاً اكتشفت أن الرجل كان متزوجاً وأن العلاقة جلبت لها الكثير من الألم، فاعتبرت ذلك "تحقيقاً غير متوازن للطاقة التي طلبتها".

يُستشهد بهذه القصة اليوم للتحذير من السحر الروني المرتبط بالمشاعر لأنه قد يحقق الرغبة بطريقة سامة.

4- في المال – طقس فاشل

في السويد عام 2020، قامت مجموعة من الشباب بصنع دمج روني (رونبند) يجمع بين Fehu (الثروة) وThurisaz (القوة) لكنهم رسموا Thurisaz مقلوبة، مما قلب معناها إلى الدمار ، بعد أسابيع، بدأوا يعانون من خسائر مالية وحوادث متتالية، ليكتشفوا لاحقاً أنهم صنعوا رمزاً لتفكيك حياتهم بدلاً من تحسينها.

كيفية صنع تعويذة الرونبند 

في تقاليد السحر الإسكندنافي القديم، كان صنع الرونبند Bindrune يُعتبر طقساً مقدساً وخطيراً في الوقت نفسه، لأنه يفتح قناة للطاقة بين صانع الرمز والعوالم الروحية أو قوى الطبيعة. هذا الطقس لم يكن مجرد رسم زخرفي، بل كان مزيجاً من سحر الرمز + سحر الكلمة + سحر النية.

فيما يلي شرح مفصل ودقيق للخطوات كما كان يمارسها السحرة القدماء، مع تنبيه شديد على أن هذه المعرفة للاطلاع الثقافي فقط:

1- اختيار النية وتحديد الهدف The Intent

قبل أي شيء، يجب تحديد نية واضحة جداً، لأن أي غموض أو تردد في النية قد يُنتج طاقة معكوسة أو كارثية.

مثال للنوايا:

- الحماية من الأرواح أو السحر الأسود.

- جذب الحب أو الشريك المناسب.

- النجاح في معركة أو مشروع.

- الشفاء من مرض أو ألم نفسي.

- الانتقام (وهو أخطر استخدام لأنه يفتح طاقة تدميرية).

في تقاليد الفايكنغ، كان يُحذر بشدة من استخدام الرونيات للانتقام، لأنه يُقال إن الأذى يعود على صاحبه بثلاثة أضعاف.

2- اختيار الرموز الرونية المناسبة

بعد تحديد الهدف، يُختار 2 إلى 5 رونيات فقط، لأن كثرتها تُضعف التركيز.

لكل رمز معنى محدد:

الحماية الروحية : Algiz (ᛉ)، Eihwaz (ᛇ)، Thurisaz (ᚦ)

جذب الثروة   : Fehu (ᚠ)، Jera (ᛃ)، Sowilo (ᛋ)

الحب والعلاقات   : Gebo (ᚷ)، Wunjo (ᚹ)، Berkano (ᛒ) 

النجاح في الأعمال: Raidho (ᚱ)، Sowilo (ᛋ)، Ansuz (ᚨ)

الطرد والتنظيف   : Hagalaz (ᚺ)، Isa (ᛁ)، Thurisaz (ᚦ)

مثال عملي:

لصنع رونبند للحماية، يجري اختيار :

Algiz (ᛉ) للحماية

Eihwaz (ᛇ) للثبات

Thurisaz (ᚦ) لصد الطاقات السلبية.

3- اختيار المادة المقدسة Sacred Medium

كان السحرة يعتقدون أن نوع المادة يؤثر على الطاقة النهائية للرمز.

- خشب الدردار أو البلوط: للاستقرار والحماية.

- حجر أو كريستال: للقوة والصلابة.

- عظم أو قرن حيوان: للطقوس الحربية.

- جلد أو معدن: للطلاسم القابلة للحمل.

في بعض الطقوس، كان يُستخدم عظم بشري، خصوصاً لعقد سحر انتقامي أو مرتبط بالموت.

4- الطهارة والتحضير الروحي Ritual Cleansing

قبل الطقس، يجب أن يكون صانع الرونبند في حالة طهارة روحية وجسدية:

- صيام يوم أو يومين، أو على الأقل الامتناع عن الطعام الثقيل.

- تطهير المكان بالبخور أو النار أو الماء المالح.

- التأمل في النية لمدة ساعة على الأقل قبل بدء الطقس.

5- رسم الرونيات ودمجها Carving the Bindrune

- يُرسم كل رون بشكل منفصل أولاً.

- يجري دمجها بحيث تشترك خطوطها لتشكل رمزاً واحداً متماسكاً.

- يتم استخدم أداة حادة (سكين طقسي أو إبرة) لنقش الرمز باليد.

- عند رسم كل خط يُلفظ اسم الرون بصوت واضح (مثلاً: "ألجيز" عند رسم Algiz).

- هذا المزج بين الرسم والنطق يُعتقد أنه ينشط "قوة الكلمة"، مثل تعويذة منطوقة.

6- تفعيل الرونبند Activation

الرسم وحده لا يكفي، إذ يجب شحن الرمز بالطاقة.

الطرق القديمة للتفعيل:

- طقس النَفَس Breath Ritual: يضع الساحر الرمز أمام فمه ويتنفس عليه سبع مرات، كل مرة مع تصور النية وكأنها تنتقل للرمز.

- قطرة الدم: يُجرح طرف الإصبع، وتوضع قطرة دم على مركز الرونبند ، الدم يُعتبر في الفايكنغ أقدس طاقة لأنه يحمل "روح الحياة".

- العنصر الطبيعي

إذا كان الهدف حماية منزل  يمرر الرمز فوق النار أو البخور.

إذا كان الهدف الحب أو النمو  يدفن تحت شجرة.

إذا كان الهدف القوة أو الحرب يجب أن يلامس ماء نهر جارٍ أو يوضع تحت ضوء القمر.

7- كلمات الشحن Galdr

في التقاليد الإسكندنافية، يُتبع الطقس بترنيمة تُسمى غالدر Galdr وهي ترديد مقطع صوتي مرتبط بالرونيات.

مثال: إذا كان الرمز يحتوي على "Algiz"، تُكرر مقطع "آل-آل-آل" بصوت عميق، مما يخلق ذبذبة طاقية.

العلماء اليوم يفسرون ذلك بأنه وسيلة لإحداث حالة ذهنية شبه غيبية مثل الترانيم الصوفية.

8- ختام الطقس والتخزين

بعد تفعيل الرونبند، يُلف بقماش نظيف ويُخزن في مكان آمن.

- إذا كان تذكاراً للحمل، يمكن ارتداؤه كعقد أو خاتم.

- إذا كان للمنزل، يوضع عند المدخل أو يدفن في عتبة البيت.

عند الرغبة في التخلص منه، يجب حرقه أو دفنه، وليس رميه في القمامة، لأن الطاقة قد تظل نشطة.

مثال عن صنع رونبند للحماية

إذا كان الهدف هو حماية المنزل من الأرواح أو السحر ، يتم اختيار الأحرف الرونية التالية :

Algiz (ᛉ): درع الحماية.

Eihwaz (ᛇ): الثبات.

Thurisaz (ᚦ): صد الأذى.

الخطوات:

- نحت الرمز على قطعة خشب من شجرة بلوط.

- شحنه بالتنفس سبع مرات، مع ترديد أسماء الرموز.

- وضع قطرة دم في مركز الرمز.

- تمريره فوق نار شمعة لتطهيره.

- وضعه عند مدخل المنزل أو تعليقه كتميمة.

تحذيرات

استخدام الرونيات بلا فهم عميق قد يخلق فوضى في الحياة بدل الحماية ، الدمج العشوائي بين رموز متضادة قد يفتح "بوابة طاقية" خطيرة ، في بعض الممارسات الحديثة، يُفضل استخدام بدائل رمزية مثل الحبر أو الماء بدل الدم لتقليل المخاطر.

الرونيات في العصر الحديث

اليوم، يستخدمها الكثير من المهتمين بالروحانيات كأداة للتأمل وفهم النفس ، علماء النفس يعتبرونها وسيلة لإسقاط اللاوعي مثل اختبارات الرسم الحر ، في الثقافات الحديثة، تُستخدم الرونيات أيضاً في الفنون، التصاميم، والوشوم كتعبير عن القوة والهوية.

كما تُستخدم الرونيات بكثرة في الوشوم Tattoos حول العالم، خصوصاً بين محبي ثقافة الفايكنغ والأساطير الإسكندنافية. 

فكل رمز روني يحمل معنى روحي أو رمزي، مثل الحماية، القوة، الشجاعة، أو الحظ. على سبيل المثال، يُختار الرمز Algiz (ᛉ) كوشم للحماية، بينما يرمز Sowilo (ᛋ) إلى النور والانتصار.

إلا أن هذه الممارسة تعود في أصلها إلى طقوس وثنية قديمة، حيث كان المحاربون ينقشون الرموز على أجسادهم اعتقاداً بأنها تمنحهم قوة خارقة أو تقيهم الأرواح الشريرة. 

تنبيه - موقف الإسلام 

الرونبند Bindrune في جوهره تعويذة وثنية، لأنه يقوم على استدعاء قوى غيبية غير الله تعالى، والتوجه إليها بالنية والرموز، وهذا في الإسلام يدخل في باب الشرك والسحر المحرم.

وفي الختام ، الأحرف الرونية تمثل مزيجاً نادراً بين اللغة والسحر والأسطورة ، هي تذكير بتاريخ بشري قديم حاول فيه الإنسان فهم قوى الكون والتواصل معها عبر رموز غامضة ، سواء اعتبرناها مجرد أثر ثقافي أو أداة روحية حقيقية، فإن سحرها لا يزال حياً في وجدان الكثيرين، يربط حاضرنا بماضٍ تغلفه الغابة، النيران، والأصوات الخفية للآلهة القديمة ، ربما لا تحمل الرونيات اليوم القوة التي اعتقد بها الفايكنغ، لكنها بلا شك ما زالت تحمل قوة الرمزية التي تحرك خيال البشر وتلهم الباحثين عن الغيب والمجهول.

إقرأ أيضاً ...

- معاني أوراق التاروت وطرق قراءتها

- ملحمة غريتر : طقوس درء الأرواح عند الفايكنغ

- اللغة الإينوشية: لغة الملائكة المزعومة بين الأسرار والسحر
- طهطائيل وخدام الحروف السبعة