![]() |
إعداد : كمال غزال |
هذه القصة المدهشة تكشف لنا كيف تتلاقى المرويات الدينية مع الأساطير الشعبية، وتمنحنا صورة عن صراع الخير والشر، والفتنة التي قد تصيب حتى أعظم الملوك.
أصل القصة في القرآن الكريم
يبدأ أصل القصة من إشارة موجزة في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ ﴾ [ص: 34].
لم يذكر القرآن تفاصيل هذه الفتنة، لكن المفسرين توسعوا في شرحها، وذكروا أن "الجسد" يشير إلى شيطان أو جني مارد تسلط على عرش سليمان فترة قصيرة. وهنا تبدأ حكاية الخاتم الذي كان يحمل الاسم الأعظم لله، وبواسطته يسيطر سليمان على الإنس والجن والريح.
صخر وسرقة الخاتم في المرويات الإسلامية
تروي كتب التفسير، كـجامع البيان للطبري والقرطبي وابن كثير، أن سليمان كان إذا دخل الحمام أو الخلاء نزع خاتمه تعظيماً لاسم الله المنقوش عليه. وفي أحد الأيام استغل شيطان مارد يُدعى صخر هذا الموقف، فتجسد في صورة سليمان، ودخل على زوجته المقربة - وتُسمى في بعض الروايات جرادة - وطلب منها الخاتم. وبحسن نية سلمته الخاتم وهي تظنه زوجها الملك.
بمجرد أن وضع صخر الخاتم في إصبعه، تغيّر الحال؛ خضعت له الجن والطير وسائر المملكة، وجلس على عرش سليمان يحكم بين الناس بالظلم والجور.
أما سليمان الحقيقي، فقد خرج هائماً لا يعرفه أحد، حتى إنه صار يعمل حطاباً أو صياداً، وكان كلما أخبر الناس بهويته اتهموه بالجنون.
بحسب أغلب الروايات، حكم صخر مكان سليمان أربعين يوماً. ثم قُدّر أن ألقى صخر الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة. وفي يوم من الأيام حصل سليمان على تلك السمكة كصدقة أو أجرة لعمله، ولما شق بطنها وجد خاتمه. وما إن لبسه حتى عادت له هيبته وسلطانه، وخضعت له الجن من جديد.
بعد أن استعاد ملكه، قبض سليمان على صخر وأنزل به عقاباً مهيباً. يروي ابن عباس: " لما رد الله على سليمان ملكه، أخذ صخراً الذي أخذ خاتمه، فنقر له صخرة وأدخله فيها، ثم سدّها بأخرى، وأوثقها بالحديد والرصاص، وختم عليها بخاتمه، وألقاها في البحر، وقال: هذا محبسك إلى يوم القيامة."
ومن هنا جاء اسمه "صخر"، أي الذي سُجن في صخرة تحت البحر، إشارة إلى حبسه الأبدي.
أسماء أخرى: حبقيق وأصل التسمية
اختلفت الروايات في اسم هذا الجني المتمرد:
- صخر: وهو الاسم الأشهر في التفاسير.
- حبقيق: ذكره المفسر السدي، وربما كان لقباً أو اسماً أعجمياً.
- آصف أو آصر: ورد عند بعض المحدثين، لكنه أقل شيوعاً.
يبدو أن هذا الاختلاف في الأسماء يعود إلى تنوّع مصادر القصة، إذ انتقلت بين الحضارات والأديان، فظهرت بأسماء محلية مختلفة، لكن الشخصية واحدة: الجني الذي خان العهد وحاول الاستيلاء على ملك النبي سليمان.
القصة في التراث اليهودي: الشيطان أشمداي
في التلمود البابلي، تظهر نسخة مطولة من القصة، لكن بطلها هو ملك الشياطين أشمداي، يُذكر أن سليمان كان يستخدم خاتمه للسيطرة على الشياطين وتسخيرهم في بناء هيكل أورشليم. وقد تمكن في البداية من أسر أشمداي بحيلة، لكن هذا الأخير تظاهر بالطاعة حتى سنحت له فرصة الخيانة.
في أحد الأيام، أقنع أشمداي سليمان بنزع الخاتم، وما إن أخذه حتى ابتلعه في فمه، وفرد جناحاً إلى السماء وآخر إلى الأرض، ثم حمل سليمان وقذفه بعيداً لمسافة 400 فرسخ. بعدها، تقمّص الشيطان صورة سليمان وجلس على عرشه يحكم باسم الملك.
كان أشمداي يخفي قدميه المشوهتين الشبيهتين بأقدام الطيور، حتى لا ينكشف أمره ، حكم مكان سليمان ثلاث سنوات، قبل أن يشك الحكماء في تصرفاته المناقضة للشريعة ، ليقوم بإلقاء الخاتم في البحر الذي تبتلعه سمكة، لتعود القصة إلى مشهد مماثل للرواية الإسلامية: سليمان يجد الخاتم في بطن السمكة ويستعيد ملكه ، بعد عودة الملك، كشف سليمان حقيقته للشعب، فهرب أشمداي بجناحيه هارباً، بينما جلس سليمان على عرشه مجدداً.
هذه التشابهات القوية تدل على أصل مشترك أو تبادل ثقافي بين اليهود والعرب في العصور القديمة، إذ انتقلت القصص عبر التوراة والأساطير ثم دخلت إلى بعض كتب التفسير الإسلامي تحت بند "الإسرائيليات".
رمزية الخاتم وصراع الخير والشر
الخاتم في هذه القصة ليس مجرد قطعة مجوهرات، بل رمز للشرعية الإلهية والسلطان على عوالم الغيب ، يمثل سليمان عليه السلام الملك العادل الذي يحكم بتفويض من الله. ، بينما صخر/أشمداي يمثل الغواية والتمرد، ومحاولة اغتصاب القوة عبر الحيلة ، ويرمز مشهد عودة الخاتم إلى انتصار الحق على الباطل، وتأكيد أن الحكم لله وحده.
تقييم الروايات
يكاد يجمع فقهاء الإسلام على أن تفاصيل هذه القصة ليست قطعية الثبوت، إذ لم يرد في القرآن أو السنة الصحيحة إلا الإشارة إلى فتنة سليمان دون تفصيل، بعض المفسرين، مثل القرطبي، اعتبر القصة من الإسرائيليات التي لا يُصدّق بها ولا يُكذّب، إلا إذا خالفت العقيدة ، آخرون انتقدوا بعض تفاصيلها، مثل قولهم إن الشيطان قد يتجسّد بصورة نبي، وهو أمر مستبعد في العقيدة الإسلامية ، لكن مع ذلك تبقى هذه القصة جزءاً من التراث الشعبي والديني الذي يثري الخيال الجمعي، ويقدم دروساً عن التواضع والابتلاء والعدل.
تتقاطع أسطورة صخر وسرقة خاتم سليمان مع تراث شعوب متعددة، من النصوص الإسلامية إلى الأساطير اليهودية، وحتى الحكايات الإغريقية التي تروي قصصاً مشابهة عن خواتم مفقودة تعود عبر بطون الأسماك.
ورغم اختلاف الأسماء بين صخر وحبقيق وأشمداي، فإن جوهر القصة واحد: الفتنة الكبرى التي تعلّم البشرية أن الملك والسلطان امتحان، وأن أعظم قوة هي التوبة والإنابة لله ، هذه الحكاية، بما تحمله من رمزية ودهشة، ستبقى حاضرة في الأدب الديني والخيال الإنساني، تذكرنا دوماً بأن وراء كل عرش حكاية، ووراء كل خاتم أسرار.
إقرأ أيضاً ...
- كتاب "مفتاح سليمان" : أبرز مرجع في الشعوذة الغربية
- بافومت: الرمز الذي أرعب العصور وكشف أسرار الطقوس
- أبرز شخصيات الجن في طقوس السحر العربي
- الملك طارش: خازن الكنوز المرصودة وسيد العمار
- الجن في التصور الإسلامي والأسطوري
- ميمون السحابي : جن طيار يركب الغيم ويكشف الأسرار
- أبو محرز الأحمر: سيد النار والدم
- ميمون النكاح : سيد طقوس الجذب والشهوة
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .