في عمق الفولكلور السوداني، تبرز أسطورة البعاتي كواحدة من أغرب وأقوى الحكايات التي شكلت المخيلة الشعبية. فالبعاتي ليس مجرد شبح هائم كما في كثير من الثقافات، بل هو الميت نفسه الذي يعود إلى الحياة بعد دفنه، ليجوب القبور والبيوت والطرقات في ساعات الليل الأخيرة، مثيراً الرعب في قلوب الأحياء.
هذه الأسطورة الممتدة منذ قرون ليست حكاية عابرة لتسلية الأطفال أو تخويفهم، بل هي مرآة تعكس علاقة الإنسان السوداني بالموت، والخوف، والذاكرة، والعدالة، وتطورت عبر الأزمنة لتصبح جزءًا من الأدب والفنون وحتى السياسة.
أصل الكلمة وجذور الأسطورة
كلمة "بعاتي" مشتقة من الجذر العربي "بعث" الذي يعني الإحياء بعد الموت. في الفصحى يمكن أن يُقال "بعاثي"، لكنها تحورت في اللهجة السودانية إلى "بعاتي"، فصارت رمزاً شعبياً لكائنٍ ينهض من قبره بجسده وروحه معاً، على عكس الأشباح غير المرئية.
يصف الفولكلور السوداني البعاتي بأنه ميت يعود فيزيائياً للحياة، يتجول بين الناس، وقد يزور أهله أو بيته القديم ثم يعود إلى قبره قبل الفجر. وتُنسج حوله روايات غامضة عن هيئته؛ فيقال إن صوته يخرج من أنفه بصوت أجش، وعيناه مغمضتان، وقدماه أشبه بحوافر الحمير. تختلف التفاصيل بين الأقاليم، لكن القاسم المشترك أن البعاتي كائن مرعب يثير الفزع في النفوس.
الحكايات الشعبية
تفسر بعض الحكايات الشعبية منشأ البعاتي :
تُرِب البِنيّة
يُروى أن فتاة ماتت فجأة بينما كان أهلها بعيدين، فذهبوا إلى النبي محمد يرجونه أن يردها إليهم. استجاب دعاؤه فعادت إلى الحياة، وتزوجت لاحقاً وأنجبت ذرية. ويُعتقد أن نسلها هم البعاعيت الذين ينهضون من قبورهم ليلًا لإزعاج الأحياء ، ورغم تعارض هذه الرواية مع العقيدة الإسلامية التي تؤكد أن البعث لا يكون إلا يوم القيامة، فقد بقيت متداولة كحكاية تفسر الظاهرة بطريقة رمزية.
بعاتي خروف العيد
تنتشر في الريف حكايات ذات طابع اجتماعي. من أشهرها "بعاتي خروف العيد"، حيث يُقال إن أباً توفي قبل عيد الأضحى تاركاً لأبنائه خروفاً للأضحية. حاول لص سرقته ليلًا، لكن الأب عاد من القبر على هيئة بعاتي، فأرعب السارق وأجبره على حمل الخروف ووضعه مراراً وهو يزمجر: "شِيلو... خَتّو... شِيلو... خَتّو..."
حتى الصباح، حين وجد الجيران السارق منهكاً ممسكاً بالخروف. في هذه الحكاية يظهر البعاتي لا كرمز للشر، بل كأب حامٍ لعائلته حتى بعد الموت.
الطقوس والخوف الجماعي
اعتقاد الناس بعودة الموتى دفعهم إلى ابتكار طقوس وقائية.
- يضع بعضهم حجارة ضخمة على القبر لضمان عدم خروج الميت.
- وفي الليالي الأولى بعد الدفن، كانت بعض العائلات تفرش سريرًا للميت تحسبًا لعودته ليلاً، كأنه ضيف عابر من عالم الموتى.
- وإذا استمر الميت في العودة، يلجأ الأهل إلى قسمه بأغلظ الأيمان أن يرقد بسلام وألا يرهق نفسه بالعودة.
هذه الطقوس تعكس مزيجاً من الخوف والحنين؛ فالناس يتوجسون من فكرة أن يعود الموتى، لكنهم في الوقت نفسه يتوقون إلى لقائهم مجدداً، ولو في صورة غامضة.
البعاتي بين الزومبي والأساطير العالمية
يشبه البعاتي في بعض جوانبه الزومبي في ثقافة هاييتي وأفريقيا الغربية، لكن مع اختلاف جوهري:
الزومبي يُنشئه السحرة عبر طقوس الفودو لاستخدامه كعبد. أما البعاتي فيعود من تلقاء نفسه، بدافع مجهول أو رغبة في استرجاع حق ضائع ، يشير هذا التشابه إلى جذور إنسانية مشتركة في الخوف من عودة الموتى، حيث تنسج المجتمعات قصصًا متشابهة رغم بعدها الجغرافي.
قضية البعاتي في المحاكم
تغلغل الاعتقاد بالبعاتي حتى بلغ قاعات المحاكم ، في خمسينيات القرن العشرين، شهدت دارفور قضية شهيرة حيث قتل شاب امرأة مسنّة بعد أن رآها ليلاً ولم تجبه عند مناداته، فظنها بعاتياً ، شهد أهل القرية بأن الاعتقاد بالبعاتي راسخ لديهم، وأن المتهم صدق أنه يواجه كائناً غير بشري ، قررت المحكمة أن القتل وقع نتيجة خطأ في الواقع، وبرأت الشاب معتبرة أنه تصرف بحسن نية وفق معتقداته.
هذه الحادثة تكشف قوة الأسطورة في تشكيل سلوك الأفراد، لدرجة أن النظام القانوني اضطر إلى التعامل معها كعامل مؤثر.
قصة واقعية
في قصة وصلت مباشرة من صاحب التجربة إلى موقع ما وراء الطبيعة | Paranormal Arabia يروي أنه في إحدى ليالي كسلا المقمرة، رأى في المنام رجلًا أسمر البشرة يخبره أنه دُفن حياً بالخطأ بعد دخوله في غيبوبة، ويرجوه أن يُبلغ ابنه الأكبر لينقذه ، مع طلوع الفجر قصد المنزل الذي وصفه له الرجل في الحلم، ليجد تجمعاً حزيناً أمامه ، أخبر الابن الأكبر بما رأى، لكن الابن وإخوته رفضوا نبش القبر، خشية أن ينبذهم الناس إذا عاد والدهم حياً، فيصفونه بـ"البعاتي" ، كما طلب الأبناء من صاحب التجربة كتمان القصة حفاظًا على سمعة العائلة. إقرأ المزيد هنا.
البعاتي كأداة تربوية واجتماعية
لم يقتصر دور البعاتي على الرعب، بل أصبح وسيلة لتنشئة الأطفال وضبط سلوكهم ، كما يهدد الغربيون أبناءهم بـ"البعبع"، يخوّف السودانيون أطفالهم بقولهم: " نم بدري... وإلا يجيك البعاتي! ".
بهذه الطريقة تحول البعاتي إلى رمز تربوي يستخدمه الآباء لضمان طاعة الصغار وعدم خروجهم ليلًا.
لكن الإيمان بالبعاتي أيضاً كان انعكاساً لعدم اليقين في المجتمعات التقليدية. فهو يمثل تفسيراً بديلاً للظواهر غير المفهومة مثل اختفاء الأشياء أو سماع الأصوات الغامضة، أو حتى للوفيات المفاجئة. كما أنه وسيلة جماعية لمواجهة القلق من الموت عبر نسج قصص تمنح الأحياء شعوراً بأن الموت ليس نهاية مطلقة.
البعاتي في الأدب السوداني
يحتل البعاتي مكانة بارزة في الحكايات الشفهية السودانية، حيث تروي الجدات قصصه في الأمسيات، بعضها مخيف وبعضها طريف. هذه الحكايات هي الذاكرة الحية للأسطورة، تنقلها الأجيال شفهيًا مع إضافة تفاصيل جديدة.
استلهم الكتّاب السودانيون شخصية البعاتي لرمزيتها العميقة ، ففي قصة "حملة عبد القيوم الانتقامية" للأديب بشرى الفاضل، يعود شاب قُتل في حادث دهس إلى الحياة، ينهض من قبره ويقود جرافة ليسحق الأغنياء والظالمين. هنا يصبح البعاتي رمزاً لغضب المقهورين وانتفاضتهم على الظلم.
بعض الشعراء والمسرحيين يوظفون لفظ "بعاتي" مجازياً للإشارة إلى عودة الماضي أو شخصيات سياسية ظن الناس أنها انتهت.
هكذا يتحول البعاتي في الأدب من كائن خرافي إلى رمز اجتماعي وسياسي.
البعاتي في الإعلام الحديث
مع انتشار الإعلام الرقمي، خرج البعاتي من إطار الحكاية التقليدية إلى الخطاب العام:
- يُستخدم مجازاً في السياسة لوصف عودة رموز الأنظمة السابقة بعد سقوطها.
- في وسائل التواصل، تُنتج مقاطع ساخرة على تيك توك ويوتيوب تحكي قصصه بأسلوب فكاهي أو مرعب.
- في الصحف، يوظف المصطلح للإشارة إلى أحداث صادمة أو شخصيات غير متوقعة، كأن يقال إن مسؤولًا عاد كـ "بعاتي" بعد أن ظن الناس أنه اختفى.
بهذا أصبح البعاتي رمزاً ثقافياً حياً يتطور مع الزمن، من الخرافة القديمة إلى الاستعارة السياسية والفنية.
التفسير الرمزي والنفسي
يمثل البعاتي أكثر من مجرد أسطورة:
- الخوف من الموت: يعكس القلق الإنساني من النهاية، وتحويله إلى قصة تمنح الموت حضوراً ملموساً.
- العدالة المؤجلة: في بعض الحكايات، يعود البعاتي للمطالبة بحقه، فيصبح رمزاً للمظلومين الذين لم ينالوا إنصافهم في حياتهم.
- الحنين والذنب: ظهوره لأهله قد يعبر عن اشتياقهم له أو شعورهم بالذنب تجاهه.
- عودة الماضي: في الخطاب السياسي، يرمز البعاتي إلى الأفكار والشخصيات التي لا تموت، فتعود لتطارد الحاضر.
بين الأسطورة والواقع
رغم أن الدين والعلم يرفضان فكرة عودة الموتى، تبقى أسطورة البعاتي متجذرة في المخيلة السودانية ، هي وسيلة لفهم المجهول والتعامل مع الخوف، وجسر بين عالم الأحياء وعالم الأموات.
لقد تحولت من حكاية تُروى إلى رمز يُستدعى في المسرح والسياسة ووسائل الإعلام، ما يجعلها أسطورة حية تتنفس في قلوب السودانيين حتى اليوم ، البعاتي هو شبح ثقافي أكثر منه كائن حقيقي. إنه مرآة لمخاوف المجتمع وأحلامه، ورمز لجدلية الحياة والموت.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .