يُعد الرسام الفرنسي غوستاف مورو (1826-1898) من أهم رواد مدرسة الرمزية Symbolism في القرن التاسع عشر. اهتم بالمواضيع الأسطورية والدينية والخيالية، واستلهم كثيراً من الميثولوجيا، الأدب، ومن التراث الشرقي والغربي معاً.
وما ترونه هنا هو أحد أعماله الفريدة التي حملت عنوان التجسد The Apparition التي تعود إلى الفترة بين 1874 و 1876 يُحتفظ به متحف أورساي في باريس؛ يبلغ طوله حوالي 106 سم وعرضه 72.2 سم ، لكن خلف هذ العمل قصة مقتل نبي سنتناولها بالتفصيل ؟
القصة الكاملة وراء العمل
تُعد قصة مقتل يوحنا المعمدان (النبي يحيى عليه السلام في الإسلام) من القصص الشهيرة التي وردت في الكتاب المقدس، ولها جذور في التراث المسيحي واليهودي، وقد وردت إشارات لها في النصوص الإسلامية أيضاً.
كان يوحنا المعمدان (يحيى عليه السلام) نبياً زاهداً يعيش في البرية، ويدعو الناس إلى التوبة والتطهير الروحي، عاش في زمن هيرودس أنتيباس Herod Antipas، وهو حاكم الجليل وطبريا، أحد أبناء الملك هيرودس الكبير الذي حكم فلسطين تحت سلطة الإمبراطورية الرومانية ، كان يوحنا يتمتع بشعبية كبيرة، وكان صوته قوياً ضد الفساد والخطيئة، فكان ينتقد علناً تصرفات الطبقة الحاكمة، خصوصاً ما فعله هيرودس.
أثناء زيارة هيرودس أنتيباس إلى روما، التقى هيروديا Herodias ، وكانت حينها لا تزال زوجة أخيه غير الشقيق فيلبس، نشأت بينهما علاقة عاطفية، وأرادا الزواج مما كان مخالفاً للشريعة اليهودية (التوراة) كما في سفر اللاويين 18:16: "عورة امرأة أخيك لا تكشف؛ إنها عورة أخيك." أي أن هذا النوع من الزواج يُعد زنا صريحاً.
تزوج هيرودس أنتيباس من هيروديا (Herodias) ، ورفض يوحنا المعمدان هذا الزواج بشدة وبشكل علني، وقد ورد ذلك في إنجيل مرقس 6:18 : " لأن يوحنا كان يقول لهيرودس: لا يحل لك أن تكون لك امرأة أخيك." ، مما أثار غضب هيروديا التي رأت فيه تهديداً لسلطتها ومكانتها.
حاولت هيروديا إقناع هيرودس بقتل يوحنا، لكنه كان يخشى رد فعل الشعب الذي كان يقدر يوحنا كنبي ورجل بار. فاكتفى بسجنه في قلعة ماكيروس Machaerus الواقعة شرق البحر الميت.
أقام هيرودس حفلاً كبيراً بمناسبة عيد ميلاده، حضره وجهاء المملكة.
سالومي (سلومي)، وهي ابنة هيروديا من زوجها الأول (هيرودس فيلبس)، رقصت أمام الضيوف في مشهد احتفالي أثار إعجاب الحاضرين وفتن هيرودس نفسه.
يُقال إن رقصها كان مبهراً ومثير إلى حد أن هيرودس وعدها أمام الجميع: " اطلبي مني ما تشائين، حتى نصف مملكتي، وسأعطيكِ إياه." (مرقس 6:22-23)
بعد انتهاء الرقصة، ذهبت سالومي إلى أمها هيروديا تستشيرها فيما تطلبه من هيرودس ، وجدت هيروديا فرصتها للانتقام، فأمرتها أن تطلب رأس يوحنا المعمدان على طبق (صحن).
عادت سالومي إلى هيرودس وقالت: " أريد أن تعطيني حالاً على طبق رأس يوحنا المعمدان."
وقع هيرودس في حيرة وندم، لأنه كان يخشى قتل يوحنا، لكنه لم يشأ أن يتراجع أمام ضيوفه أو ينقض قسمه العلني، فأمر مضطراً بتنفيذ الطلب.
أرسل هيرودس أحد جنوده إلى السجن، فتم قطع رأس يوحنا المعمدان ، أُحضر الرأس على طبق وقدّمه إلى سالومي، التي بدورها أعطته لأمها هيروديا.
هذا المشهد الدموي أصبح رمزاً في الفنون والآداب، ويظهر في لوحات مثل لوحة غوستاف مورو "The Apparition" حيث يُصوّر الرأس يطفو كأنه رؤية خارقة.
لاحقًا، تعرض هيرودس أنتيباس لهزيمة ساحقة في معركة ضد الملك الحارث الرابع، ملك الأنباط في الأردن، بعدما طلق زوجته الأولى – ابنة الحارث – ليتزوج هيروديا، حيث اعتبر الحارث ذلك إهانة سياسية وعائلية. ورأى اليهود في هذه الهزيمة عقاباً إلهياً على جريمة هيرودس بحق يوحنا المعمدان.
وقد أدت هذه الأحداث إلى زعزعة مكانة هيرودس السياسية، وكانت الشرارة التي مهدت لتدخل روما، حيث أصدر الإمبراطور كاليغولا لاحقاً قراراً بعزله ونفيه مع هيروديا إلى منطقة الغال (فرنسا الحالية)، وهناك مات في منفى بعيد بعد أن فقد ملكه ونفوذه.
وقد أدت هذه الأحداث إلى زعزعة مكانة هيرودس السياسية، وكانت الشرارة التي مهدت لتدخل روما، حيث أصدر الإمبراطور كاليغولا لاحقاً قراراً بعزله ونفيه مع هيروديا إلى منطقة الغال (فرنسا الحالية)، وهناك مات في منفى بعيد بعد أن فقد ملكه ونفوذه.
سالومي نفسها ذُكرت في بعض الروايات اللاحقة، ويقال إنها ماتت ميتة مأساوية عندما سقطت في نهر متجمد وتحطمت رقبتها في مصادفة تشبه العقاب السماوي، لكن هذه الرواية غير مؤكدة.
لا تذكر المصادر التاريخية بوضوح كيف كان موقف فيلبس إبان زواج أخيه من زوجته، يبدو أنه لم يكن حاكماً سياسياً قوياً مثل باقي إخوته، فكان يعيش في روما بعيداً عن السلطة ، ربما فُرض عليه الأمر بحكم نفوذ عائلته وصمت خوفاً من سطوة هيرودس أنتيباس ومن الدعم الروماني له ، بعض المصادر تلمح إلى أنه رفض الطلاق لكن لم يكن بيده سلطة لمنع ما حدث.
الرواية الإسلامية
في الإسلام، يُعتبر يحيى بن زكريا عليه السلام نبياً عظيماً، وقد وردت قصته في القرآن الكريم في عدة مواضع، مثل سورة مريم والأنعام ، لم يرد نص صريح في القرآن عن طريقة استشهاده، لكن بعض التفاسير الإسلامية تذكر قصة مقتله مشابهة للرواية الإنجيلية: أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أراد الزواج من امرأة لا تحل له، فأنكر عليه يحيى ذلك، فحقدت عليه المرأة ودبرت مؤامرة لقتله، فاستجاب الملك تحت ضغطها وتم ذبحه ، هذه القصة وردت في تفسير ابن كثير والطبري وغيرهما، وتتشابه في مضمونها مع قصة هيرودس وهيروديا وسالومي.
بعد استشهاد يوحنا المعمدان، احتفظت هيروديا برأسه كرمز لانتصارها وفق بعض الروايات القديمة مع اضطراب الأوضاع وتدمير الهيكل عام 70م، أخفى أتباع يوحنا الرأس لحمايته من التدنيس، في القرن الرابع الميلادي، ومع توسع البيزنطيين، أصبح الرأس موضع تقديس ونُقل لاحقاً إلى دمشق حيث بنى الإمبراطور ثيودوسيوس "كنيسة يوحنا المعمدان" لحفظ الرأس، وهي التي أصبحت لاحقاً موقع الجامع الأموي الكبير.
كانت الكنيسة مركزاً مسيحياً يزوره الناس للتبرك برأس يوحنا، وعند فتح المسلمين لدمشق، اقتسم المسلمون والمسيحيون المبنى بين مسجد وكنيسة ، وأثناء بناء الوليد بن عبد الملك للجامع عام 705م عُثر على الرأس في صندوق رخامي ، فأعيد دفنه وبُني عليه مقام النبي يحيىن وتحولت الكنيسة بأكملها إلى جامع.
حتى اليوم، يوجد ضريح النبي يحيى في وسط صحن الجامع الأموي، داخل قاعة زجاجية مضاءة ، يزوره المسلمون والمسيحيون على حد سواء، وهو رمز للتواصل الروحي بين الديانتين، إذ يُعد يوحنا المعمدان نبياً في الإسلام وقديساً في المسيحية.
نبذة عن النبي يحيى او يوحنا المعمدان
وُلد يوحنا المعمدان أو يحيى بمعجزة، إذ بشر الله زكريا عليه السلام به رغم كبر سنه وعقم زوجته (إليصابات) وكبر سنها ، وكان أول من سُمّي بهذا الاسم تكريماً له ، وقد ذُكر ذلك في القرآن الكريم : ﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا ﴾ - سورة مريم (7-8)
جاءت ولادته قبل ولادة المسيح بنصف عام تقريباً ، بحسب الرواية المسيحية لُقب بـ"المعمدان" لأنه كان يعمد الناس في نهر الأردن رمزاً للتوبة والتطهر من الخطايا ، وهو ابن خالة المسيح وقد بدأ دعوته قبله ومهد لمجيئه، ثم عمده بنفسه أمام الناس ، بدأ دعوته العلنية في سن الثلاثين، وهو نفس سن بدء دعوة المسيح ، استشهد بأمر هيرودس أنتيباس عام 28 أو 29 ميلادية وكان عمره عند استشهاده حوالي 33 أو 34 عاماً، مقارباً لعمر المسيح عند رفعه إلى السماء.
رمزية اللوحة : سالومي أمام رأس يوحنا
في الرؤية الزخرفية لمورو، تظهر سالومي كأنها في حالة غريبة بين النشوة والخوف، تواجه الرؤية الماورائية لرأس يوحنا المضيء، في تصوير يذهب بعيداً عن مجرد حدث تاريخي ليصبح رمزاً للصراع بين الرغبة والقداسة.
ويظهر المشهد، المليء بالغموض النفسي والسردي، أمام الملك الجالس على العرش وزوجته، وكذلك أمام الجلاد الذي لا يزال سيفه مبللًا بالدماء.
وقد وصف اللوحة الكاتب الفرنسي جوريس-كارل هويزمان سالومي في روايته المتحللة الشهيرة (ضد الطبيعة) À rebours لعام 1884 أنها المثال الأسمى لـ "المرأة الفاتنة المدمرة" Femme Fatale أي التي يُستخدم جمالها لإحداث الخراب ، وكتب عنها: " لقد أيقظت حواس الرجل الخاملة بطاقة أعظم، وسحرت إرادته وأخضعتها بسحرها بثقة أكبر، ذلك السحر الذي يشبه زهرة جنسية ضخمة نمت في بيوت دفيئة للتدنيس، وتربت في بساتين غير مقدسة."
في الختام ، لم تكن سالومي صاحبة الحقد شخصياً، لكنها كانت الأداة التي استخدمتها أمها هيروديا ، رقصها ورغبة هيرودس فيها كانا المحركين للأحداث، هذه القصة تمزج بين الدين والسياسة والرغبة، ألهمت أعمالاً فنية وأدبية عبر القرون، من مسرحية أوسكار وايلد "Salomé" إلى لوحة غوستاف مورو هذه التي تصوّر اللحظة الفاصلة بين الرؤيا والواقع، وبين الجمال والرعب.
نبذة عن كمال غزال

0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .