19 أغسطس 2025

الموقف من الماورائيات : بين إيمان وإنكار وبحث

ما هو موقفك من الماورائيات ؟ إيمان إنكار - بحث
إعداد :  كمال غزال

بزغت الماورائيات منذ أن بدأ الإنسان يرفع رأسه إلى السماء ويتساءل عن النجوم التي تلمع في صمت الليل، أو ينظر إلى الموت فيسأل: " إلى أين يذهب الراحل؟ " ، لكن البشر لم يتعاملوا معها على طريقة واحدة؛ فهناك من آمن بها، وهناك من أنكرها، وهناك من وقف حائراً في الوسط يبحث في رماد الأسئلة عن قبس من الحقيقة ، هذه ليست مجرد مواقف فكرية، بل أنماط وجودية، تعكس كيف يواجه كل إنسان الغيب واللايقين.


1- موقف المُؤمِن

المؤمن بالماورائيات يرى أن وراء العالم المرئي قوى خفية تتحكم أو تؤثر في مجرى حياته ، قد يكون هذا الإيمان موروثاً من ثقافة أو دين، أو مكتسباً من تجربة شخصية لا يستطيع إنكارها ، بينت الدراسات النفسية الحديثة (مثل دراسة نُشرت عام 2025 للباحث داجنال) أن الإيمان بالماورائيات يرتبط بزيادة الإحساس بمعنى الحياة والانتماء الاجتماعي، أي أن المؤمن يجد في هذا الإيمان عزاءً وهدفاً، حتى لو لم يكن مبنياً على أدلة علمية صارمة.

أمثلة من الواقع

- في المجتمعات العربية، لا يزال كثيرون يلجؤون إلى الأضرحة والأولياء، طلباً للشفاء أو الحماية، في محاولة للاتصال بعالم خفي يمنح الطمأنينة.

- في الغرب، نجد إيمانويل سويدنبورغ (القرن 18)، الذي ادعى تواصله مع الملائكة والأرواح، وبنى على ذلك منظومة فكرية كاملة.

- حتى في عصرنا، نرى أشخاصاً يستعينون بالمنجمين أو الوسطاء الروحانيين، ليس بدافع التسلية فقط، بل بحثاً عن معنى شخصي ينقصهم في عالم مادي قاسٍ.

قد يقع المؤمن ضحية الوهم أو الخداع، لكنه يعيش عالماً مملوءاً بالمعاني، وهذا يمنحه نوعاً من السند الوجودي.

2- موقف المُنكِر

على الطرف الآخر يقف المنكر الذي يرى الماورائيات مجرد خرافة أو أوهام نفسية ، العالم عنده ماديّ صرف وكل ما لم يُثبت بالبرهان والتجربة لا قيمة له ، يفسر علم النفس المعرفي الكثير من التجارب الخارقة عبر ظواهر مثل أبوفنيا Apophenia (رؤية أنماط في الصدف والفوضى) أو الهلاوس الإدراكية ، هنا يجد منكر الماورائيات قوته في يقينه العقلي، إذ يرى أن رفض الخرافة حماية للعقل من التلاعب.

أمثلة من الواقع

- ديفيد هيوم (القرن 18) رفض المعجزات ورأى أنها تقوم على شهادات ضعيفة وانحياز بشري للمبالغة.

- في العالم العربي، كثير من المفكرين العقلانيين المعاصرين يرفضون الإيمان بالجن والسحر، ويعتبرونه من بقايا التراث الشعبي.

- في العلوم الحديثة، نجد علماء أعصاب يفسرون تجارب الاقتراب من الموت أو رؤى الأشباح على أنها نشاط دماغي غير طبيعي، لا أكثر.

يحمي المنكر نفسه ومجتمعه من الخرافة، لكنه أحياناً يُغلق الباب أمام احتمالات لم تُفسَّر بعد أو ما زال العلم يعجز عن تفسير تجارب البعض حولها.

3- موقف الباحث عن الحقيقة

بين المؤمن والمنكر، يقف الباحث،  لا يسلّم ولا ينكر، بل يقترب من الظواهر الماورائية كما يقترب العالِم من تجربة: بالشك، بالتوثيق، وبالتحليل.


أمثلة من الواقع

- الغزالي في "المنقذ من الضلال" شكّ في كل شيء: الفلاسفة، المتكلمين، وحتى الصوفية، حتى وجد تجربته الخاصة. كان مثالاً للباحث الذي لا يستسلم للإجابات السهلة.

- الفيلسوف وعالم النفس ويليام جيمس درس التجارب الدينية والروحانية بعين الباحث: لا يرفضها، ولا يبتلعها إيماناً، بل يحاول فهم أثرها في النفس الإنسانية.

- في عصرنا، هناك فرع يسمى علم النفس الشاذ Anomalistic Psychology يدرس التجارب الخارقة (رؤية الأشباح، الاستبصار، التلباثي) لا لإثباتها أو نفيها، بل لفهمها كظواهر إنسانية.

- أعتقد أنك عزيزي القارئ خمنت في أي فئة ينتمي كمال غزال ، معد هذا المقال والباحث عن الحقيقة والكاتب في موقع ما وراء الطبيعة.

يعيش الباحث في منطقة رمادية قد يراه الناس ضعيفاً لأنه لا يملك يقيناً حاسماً، لكن قوته في صدقه مع ذاته، وشجاعته في مواجهة الغموض بلا هروب. 

الملحدون وأعداء العلم في العصر الحديث

إلى جانب المواقف الثلاثة، برز في عصرنا تياران متطرفان في موقفهما من الماورائيات :

الملحدون الجدد

يرون أن الماورائيات مجرد امتداد للخرافة الدينية، فيرفضون كل غيب لصالح العقل والعلم ، لكن المفارقة أن بعض الدراسات مثل أبحاث مايكل شيرمر Michael Shermer بينت أن حتى بعض المعلنين إلحادهم يؤمنون بالتنجيم أو الطاقات أو "الصدف الكونية"، كأن فراغ الإيمان لا يُترك خالياً بل يُملأ بشكل آخر.

أعداء العلم

أمثال منكري كروية الأرض ، التغير المناخي، ورافضو اللقاحات، أي المؤمنون بنظريات المؤامرة ، هؤلاء يستخدمون الماورائيات أو شبيهاتها كسلاح ضد المنهج العلمي ، أوضحت دراسة نُشرت عام 2025 أن الإيمان بالماورائيات يختلف عن الإيمان بالمؤامرات: الأول يعزز أحياناً معنى الحياة، بينما الثاني يرتبط أكثر بالانتماء الاجتماعي والهوية ، إقرأ عن إجابة لسؤال : لماذا يؤمن الناس بنظريات المؤامرة ؟


البعد النفسي – لماذا نختار موقفنا ؟

- المؤمن يبحث عن المعنى والعزاء.

- المنكر يبحث عن الأمان العقلي من الخداع.

- الباحث يبحث عن الحرية الفكرية والصدق مع الذات.

كل موقف، إذن، ليس مجرد خيار فكري، بل حاجة نفسية عميقة.

وفي الختام هناك ثلاث طرق في مواجهة الغيب، المؤمن يعيش بمعنى، حتى لو كان المعنى نسجاً من الخيال ، والمنكر يعيش بيقين حتى لو كان يقيناً قاسياً ، بينما الباحث يعيش بالسؤال، وهو طريق متعب لكنه أصدق ، أما الإلحاد وأعداء العلم فهما وجهان جديدان لصراع قديم: هل نواجه الغيب بالرفض التام ؟ أم نبحث عن بدائل حتى لو كانت مؤامرات أو أوهام جديدة ؟ 

في النهاية، لا يملك أحد الحقيقة الكاملة ، لكن ما نملكه جميعاً هو اختيار الموقف الذي نواجه به المجهول: بالعزاء، أو بالعقل، أو بالسؤال.

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ