20 سبتمبر 2025

الخوذة الجنائزية: درع الأرواح بعد الموت

تعويذة - خوذة المحارب اليوناني في القبر لدرء الأرواح الشريرة
إعداد : كمال غزال
في الحضارات القديمة، لم تكن الحرب صراعاً جسدياً فقط، بل كانت أيضاً معركة روحية يخوضها الإنسان ضد قوى غيبية يعتقد أنها تتربص به في الحياة والموت. ومن أروع الشواهد على هذا التداخل بين الحرب والعالم غير المرئي اكتشاف أثري مذهل في مقبرة "أرخونتيكو" بمدينة بيلا في مقدونيا شمال اليونان، يعود إلى منتصف القرن السادس قبل الميلاد.

القطعة الرئيسية في هذا الاكتشاف هي خوذة برونزية جنائزية من الطراز الإيليري، عُثر عليها مع محارب ثري، تتصل بها قطعة ذهبية تغطي منطقة الفم، منقوش عليها رمز مروع يعرف باسم الغورغونيون (Gorgoneion)، وهو يمثل ميدوسا الغورغون الأسطوري  ، هذا الرمز لم يكن مجرد زخرفة، بل تعويذة سحرية قوية وظيفتها حماية الميت في رحلته إلى العالم الآخر، ودرء الأرواح الشريرة التي قد تحاول التلاعب بروحه أو جسده.

إذا كان الميت محارباً قوياً، فقد تخشى روحه انتقام الأعداء أو الأرواح الشريرة التي هزمها في حياته ، لهذا وضع الغورغونيون على الفم قد يكون بمثابة تعويذة مانعة، تُغلق الطريق أمام تلك القوى، فتمنعها من التلاعب بروح المحارب أو الاستحواذ على جسده.

الغورغونيون: وجه ميدوسا الحامي

كان الغورغونيون تمثيلاً لوجه إحدى الغورغونات، وأشهرهن ميدوسا التي ذكرتها الميثولوجيا الإغريقية ذات الشعر المكون من أفاع ونظرتها التي تُحول الأحياء إلى حجر ، وقد استخدم الإغريق صورة ميدوسا كتعويذة لحماية المحاربين من قوى الظلام، وكان هذا الرمز يظهر على الدروع والخوذات في الحروب وواجهات المعابد لحماية المدن وأيضاً على القطع الجنائزية لضمان سلامة الروح بعد الموت ، حتى الآلهة العظام مثل زيوس وأثينا كانت تُصوَّر وهي تحمل الغورغونيون على دروعها أو ملابسها، إشارة إلى قوته الخارقة في مواجهة الشر.

لم يقتصر رمز ميدوسا على الجنائز والحروب، بل أصبح أيقونة إغريقية استمرت عبر القرون ، إذ ظهر في الفنون، النقوش، وحتى العملات ، استُخدم كرمز حماية في المنازل والمعابد ، وبقي أثره حتى في الثقافة المعاصرة، حيث استلهمته أعمال فنية وأدبية وأساطير حديثة.

قصة ميدوسا

في الميثولوجيا الإغريقية، كانت الغورغونات ثلاث أخوات مخيفات: ميدوسا، ستينو، ويوريال، وُلدن من الإلهين البحريين فورس وكيتو، وتميزن بشعر من أفاعٍ سامة ونظرات قاتلة تحول كل من يحدق فيهن إلى حجر.

وتروي إحدى النسخ القديمة أن ميدوسا لم تكن وحشاً منذ البداية، بل كانت فتاة فائقة الجمال وخادمة مخلصة في معبد الإلهة أثينا، لكن الإله بوسيدون اعتدى عليها داخل المعبد، فاعتبرت أثينا ذلك تدنيساً لقدسيتها، وصبت غضبها على ميدوسا، فلعنتها وحولت شعرها إلى أفاع ومنحتها نظرة مميتة. 

لاحقاً، أرسل الملك بوليدكتس البطل برسيوس لقتل ميدوسا، فاستعان بدرع عاكس قدمته أثينا لتجنب النظر المباشر إليها، وتمكن من قطع رأسها. ومن دمها انبثق الحصان المجنح بيغاسوس، فيما احتفظ الرأس بقوة سحرية خارقة، فاستخدمته أثينا لاحقاً كرمز حماية يعرف بـالغورغونيون، ليصبح من أقوى التعويذات الأبولتروبية apotropaic في اليونان القديمة لدرء الشر والأرواح الخبيثة.

ما هو السر في تغطية الفم ؟

تغطية الفم تحديداً بالرمز الغورغوني لم تكن عشوائية، بل تحمل دلالات عميقة في المعتقد الإغريقي:

1- الفم بوابة الروح

كان يُنظر إلى الفم كبوابة تتواصل من خلالها الروح مع الجسد، ومنه تخرج الكلمات والأنفاس، أي الحياة ذاتها ، بتغطية الفم برمز ميدوسا، يتم إغلاق هذه البوابة لحماية الروح من أي تدخل خارجي بعد الموت ، كما يمنع هذا الرمز الأرواح الشريرة من دخول الجسد أو السيطرة عليه.

2- حماية الميت في رحلته للعالم الآخر

في الميثولوجيا الإغريقية، كان الموت بداية رحلة صعبة إلى العالم السفلي، حيث تتربص الأرواح الخبيثة والأعداء غير المرئيين ، الغورغونيون يعمل كـ تعويذة دفاعية ترافق المحارب، وتردع تلك الأرواح بنظرتها المروعة ، وهكذا يظل الميت "مقاتلًا" حتى في موته، محصناً بالقوة السحرية لميدوسا.

3- تثبيت الهوية الروحية

لاحظ الأثريون أن القطعة الذهبية كانت تُضغط على وجه الميت لتظهر ملامحه الدقيقة مثل الأنف والحاجبين ، هذا أشبه بختم نهائي يضمن بقاء روح المحارب متصلة بهويته أثناء عبوره إلى العالم الآخر ، يشبه هذا الغرض أقنعة المصريين القدماء لكن في هذه الحالة يقتصر على منطقة الفم، كرمز للحياة والكلمة.


وختاماً ، الخوذة الجنائزية المزودة برمز الغورغونيون هي أكثر من مجرد أثر تاريخي؛ إنها نافذة على عقلية الإغريق القدماء، الذين رأوا في الحرب امتداداً لصراع كوني بين قوى النور والظلام.

لم يكن إلباس المحارب الميت هذه الخوذة تكريماً لجسده فقط، بل كان درعاً لروحه، يرافقه في رحلته إلى العالم الآخر، ليبقى مقاتلًا حتى بعد الموت ، هذا الاكتشاف يذكرنا بأن الإنسان، منذ آلاف السنين، لم يتوقف عن البحث عن الحماية من المجهول، سواء عبر الأسلحة، أو الرموز، أو التعويذات التي لا تزال أسرارها تلهمنا حتى اليوم.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ