داخل المساحات الخضراء الواسعة لحديقة غولدن غيت بارك في سان فرانسيسكو، وفي مكان يبدو هادئاً ومسالماً للوهلة الأولى، تتوارى واحدة من أقدم وأشهر الأساطير الحضرية في تاريخ المدينة: شبح المرأة البيضاء في بحيرة ستو The White Lady of Stow Lake.
هي أسطورة بدأت كخبر صغير في صحيفة محلية قبل أكثر من مئة عام، لكنها تحولت بمرور الزمن إلى جزء راسخ من الذاكرة الشعبية للمدينة، وإلى واحدة من أكثر قضايا الأشباح التي يصر السكان والسياح على روايتها ، هذه هي حكاية امرأة تبحث منذ أكثر من قرن عن طفلها المفقود.
البحيرة: قلب أسطورة غامضة
تقع بحيرة ستو في الطرف الشرقي من غولدن غايت بارك وتحيط بها الأشجار الكثيفة والممرات الترابية والجسور القديمة ورغم أن المكان اليوم يبدو مثالياً للتنزه، إلا أن تاريخه في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كان يحمل نبرة مختلفة: حوادث انتحار متكررة داخل الحديقة، شكاوى من سماع أصوات غامضة ليلاً، ظلال تتحرك قرب الماء، وقصص مريبة عن حوادث غرق لم تُوثّق بشكل جيد، هذا المناخ كان أرضاً خصبة لولادة الأسطورة.
البداية: مقال صحفي واحد أشعل كل شيء (1908)
في السادس من يناير عام 1908، نشرت صحيفة San Francisco Chronicle مقالاً غريباً عن رجل يُدعى أرثر بيجن ، الرجل أوقفته الشرطة بسبب قيادته بسرعة كبيرة، لكنه أقسم لهم أنه كان يفر من شيء "غير بشري" ، قال إنه رأى امرأة طويلة، بشعر أشقر طويل، حافية القدمين، ترتدي ثوباً أبيض، تظهر فجأة أمام سيارته عند شاطئ بحيرة ستو، ثم تختفي بطريقة لا يمكن تفسيرها ، كان هذا أول توثيق إعلامي مباشر لما سيصبح لاحقاً أشهر شبح في سان فرانسيسكو.
القصة الشعبية: أم فقدت طفلها… وانتحرت
بعد خبر 1908، بدأت تظهر روايات متعددة لأصل الشبح، لكن أغلبها يدور حول جوهر واحد: امرأة كانت تتنزه مع طفلها قرب البحيرة ، وأثناء انشغالها بالحديث مع امرأة أخرى، اختفت عربة الطفل فجأة ، سقط الطفل في الماء وغرق ، الأم المصدومة بدأت تبحث بهستيريا وفي لحظة يأس… ألقت بنفسها في البحيرة ، منذ ذلك اليوم - حسب الرواية - لم تهدأ روحها.
لكن اللافت أن النسخ تختلف: بعض الروايات تقول إنها كانت في قارب صغير وسقط الطفل منه، وبعضها يقول إن الأم والطفل غرقا معاً، وبعضها يذكر أن الأم قتلت طفلها ثم انتحرت، كنسخة أكثر سوداوية ظهرت لاحقاً ، ومع كل اختلاف… بقيت الصورة واحدة: امرأة شاحبة تتجول حول البحيرة بحثاً عن طفلها.
مشاهدات متكررة عبر قرن كامل
على مدى أكثر من 115 عاماً، سجل السكان وزوار الحديقة عدداً كبيراً من المشاهدات والبلاغات، وغالباً ما تتفق على عناصر مشتركة:
1) ظهور “المرأة البيضاء” قرب الماء
ترتدي ثوباً أبيض أو ثوباً مبللاً، شعرها طويل ومبعثر، أحياناً تبدو حافية القدمين، وأحياناً يقال إن ثيابها تقطر بالماء.
2) صوت ينادي: "طفلي… أين طفلي ؟ "
عدد من الروايات الشعبية يذكر أن الأشباح تُسمَع أكثر مما تُرى.
3) تغير ملامح تمثال “الأم الرائدة – Pioneer Mother Statue”
الروايات تقول إن التمثال القريب من البحيرة “يتحرك” أو “تتغير ملامحه” أثناء الليل، خاصة عند اقتراب ضوء القمر من وجهه. هذا العنصر أضيف لاحقاً لارتباط التمثال بمفهوم الأمومة.
4) اختبار “استدعاء الشبح”
أسطورة حديثة تقول إنك إن وقفت عند البحيرة ليلاً وقلت ثلاث مرات:
" أيتها السيدة البيضاء ، في حوزتي طفلكِ "
"White Lady, I have your baby"
فقد تظهر لك المرأة… لكن لا يوجد أي دليل حقيقي على ذلك سوى قصص تروى في جولات "أشباح سان فرانسيسكو".
أدلة تاريخية… مفقودة ؟
رغم شهرة الأسطورة، فإن التحليل التاريخي يواجه مشكلة كبيرة : لا توجد سجلات وفيات أو تقارير رسمية تؤكد حادثة الأم والطفل.
لكن يجب التذكير بأن زلزال سان فرانسيسكو 1906 وما تبعه من حرائق دمّر عدداً ضخماً من سجلات الشرطة والبلدية ، جزء كبير من ملفات حوادث الغرق والانتحار آنذاك اختفى تماماً.
لذلك، من المستحيل الجزم بأن الحادثة لم تقع، كما لا يمكن الجزم بأنها حدثت فعلاً ، إنها حالة تقف بين الغياب الوثائقي والحضور الشعبي الطاغي.
لماذا أصبحت الأسطورة بهذه القوة ؟ هناك عدة أسباب جعلت هذه الحكاية راسخة في ذاكرة المدينة:
1) المكان نفسه يحمل طاقة رمزية قوية
الماء والضباب والأشجار الكثيفة يهيئ بيئة مثالية للقصص الماورائية.
2) علاقة الأسطورة بالأمومة المأساوية
فقدان طفل هو من أكثر السيناريوهات الإنسانية المأساوية، مما يجعل القصة عاطفياً قوية وعميقة.
3) وجود حوادث انتحار حقيقية في الحديقة خلال تلك الحقبة
حتى لو لم تكن المرأة واحدة منها، فهذا أعطى القصة “مصداقية” بيئية.
4) تأثير الإعلام المبكر (1908)
قصةٌ واحدة صغيرة يمكن أن تُحدث أثراً هائلاً قبل عصر التحقق الرقمي.
5) تطور القصة عبر الزمن — Folklore Evolution
مثل أي أسطورة حضرية، التفاصيل تتغير لتناسب مخاوف كل جيل.
هل الشبح حقيقي ؟
من منظور بحثي: لا أدلة قطعية تثبت وجود الشبح أو حادثة الغرق، لكن الشهادات الشعبية كثيرة ومتراكمة، كما أن القصة صمدت لأكثر من قرن - وهذا بحد ذاته مؤشر على قوة الأسطورة في الوعي الجمعي.
من منظور ماورائي هناك إمكانية أن يكون المكان قد شهد حادثة مأساوية لم تُوثّق، أو أن الشبح تمثل “طاقة الحزن” المتراكمة في المنطقة، أو أنها مجرد ظاهرة نفسية مثل رؤية ظلال في الضباب (Pareidolia).
بين الأسطورة والواقع
شبح المرأة في بحيرة ستو ليس مجرد قصة مخيفة لسياح الحدائق ، إنها مثال حي على كيف تصبح حكاية صغيرة - غير مؤكدة - جزءاً من وجدان مدينة كاملة، وتنتشر عبر الصحافة، المشاهدات، وجولات الأشباح، ثم تتحول إلى تراث شعبي رغم غياب الدليل التاريخي القاطع.
ربما لم تغرق امرأة وطفلها في البحيرة، وربما فعلت ، ربما يظهر شبحها فعلاً في الليالي الضبابية… وربما هو مجرد خيال بشري متأثر بسحر المكان.
لكن المؤكد أن أسطورة شبح بحيرة ستو ستظل واحدة من أشهر القصص الماورائية في كاليفورنيا، ومن أغنى النماذج التي تعكس قوة السرد الشعبي في تشكيل ذاكرة المكان.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .