15 سبتمبر 2025

الزئبق : المعدن الحي الذي أغرى الملوك والسحرة

الزئبق  - طقوس وأساطير -  الخلود - البحث عن الكنوز
إعداد : كمال غزال
يعد الزئبق واحداً من أكثر العناصر الكيميائية غموضاً وسحراً في التاريخ. فهو المعدن الوحيد الذي يوجد في حالته السائلة عند درجة حرارة الغرفة، مما أكسبه عبر العصور مكانة خاصة في قلوب البشر.

انعكاسه الفضي الساحر وحركته الانسيابية منحاه هالة من القداسة في نظر القدماء، فاستخدم في طقوس السحر والخيمياء، ورُبط بالخلود والكنوز وحتى العالم السفلي. في هذا المقال نستعرض الدور الماورائي والعلمي لهذا المعدن، مع أحدث الاكتشافات الأثرية التي تؤكد حضوره في الحضارات القديمة.


حلم التحول إلى ذهب في الخيمياء

اعتبر جابر بن حيان أن الزئبق عنصر أساسي في تكوين المعادن، ورمزاً للروح في نظرية “الزئبق والكبريت”. كان يُعتقد أن المزج المثالي بين الزئبق (الجانب الروحي) والكبريت (الجانب المادي) يمكن أن ينتج المعادن النفيسة كالذهب.

في أمريكا اللاتينية

في أمريكا اللاتينية يُستخدم الزئبق حتى اليوم في طقوس تنظيف البيوت من الأرواح الشريرة وجلب الرزق. ويُرش في أركان المنازل أو يضاف إلى زيوت الشموع في متاجر الروحانيات Botanicas كرمز للطاقة والحماية.

في حضارات المايا والأزتك، كان للزئبق دور ديني وروحاني ، إذ جرى استخدام الزنجفر في حضارة المايا لتزيين المقابر الملكية، كما عُثر على أوعية تحتوي على زئبق سائل في ستة مواقع أثرية، ربما كرمز للمرايا السحرية أو الماء المقدس ،إذ كان يُسكب الزئبق السائل في أوان فخارية مسطحة ليعمل كـ"مرآة سحرية" تعكس العوالم الخفية ، وكان الكهنة يتأملون سطح الزئبق لمعرفة الغيب أو التواصل مع الأرواح ، وقد عُثر على أوعية تحتوي على الزئبق في مقابر نخبة المايا، ما يشير إلى أنه استُخدم في طقوس مقدسة ،  كشفت الدراسات الحديثة عن تلوث التربة في مواقع المايا بنسب مرتفعة من الزئبق نتيجة هذه الطقوس.

في عام 2015 عثر علماء الآثار على بحيرة من الزئبق السائل تحت هرم "ثعبان الريش" أو هرم تيوتيواكان في المكسيك ، يُرجح أن السائل كان يمثل رمزاً للعالم السفلي أو نهراً يفصل عالم الأحياء عن الموتى، ما يثبت مكانة الزئبق في الطقوس الدينية لشعوب أمريكا الوسطى.

في أوروبا القديمة

اعتقد الإغريق أن الزئبق يمتلك قوة سحرية تمنح الحياة للجماد. فقد كانوا يضعونه داخل التماثيل الخشبية أو البرونزية، فيتحرك بفعل سيولته الثقيلة، ما يوحي للناظرين بأن التمثال حي أو تسكنه روح إلهية. استخدم الكهنة هذه الخدعة في المعابد لإثارة رهبة المؤمنين، بينما استغلها المخترعون مثل هيرون السكندري في ألعاب مسرحية وآلات مذهلة. بالنسبة لهم، كان الزئبق رمزاً للروح المتحركة التي تبث الحياة في الأشياء الجامدة، مما جعله عنصرًا جوهريًا في الخيمياء والطقوس السحرية.

في الصين القديمة

من الصين إلى الهند، كان يُعتقد أن الزئبق يمكنه إطالة العمر أو منح حياة أبدية. 

في الهندوسية، عُرف باسم باراد ودخل في طقوس روحية معقدة ، لكن الحضارة الصينية هي المثال الأبرز على افتتان البشر بالزئبق كإكسير للخلود.

كان الإمبراطور تشين شي هوانغ (221–210 ق.م) الذي وحد الصين مهووساً بالخلود. أوعز للخيميائيين بإعداد جرعات من الزئبق على أنها إكسير الحياة ، المفارقة أن تناوله لهذه الجرعات أدى إلى موته بتسمم الزئبق.

وفق المؤرخ سيما تشيان، بُني ضريح تشين على شكل خريطة للصين تجري فيها أنهار من الزئبق تحت الأرضية، محاطة بقبة مرصعة بالنجوم ، أثبتت الدراسات الحديثة وجود مستويات مرتفعة جداً من الزئبق في التربة المحيطة بالقبر، مما يؤكد الرواية القديمة ، استمر ولع الحكام الصينيين بالزئبق لقرون، حيث توفي أكثر من 12 إمبراطوراً بتسمم مماثل، ما يعكس الجانب المأساوي لبحث الإنسان عن الخلود.

في مصر القديمة

رغم انتشار الأساطير الحديثة حول ما يسمى "الزئبق الأحمر الفرعوني"، فإن الأدلة العلمية تشير إلى استخدام المصريين القدماء لمركب الزنجفر (كبريتيد الزئبق الأحمر) كصبغة في تزيين المقابر والجداريات ، لا توجد أي أدلة على وجود زئبق سائل في عمليات التحنيط، كما أكد د. زاهي حواس أن ما يسمى بـ"الزئبق الأحمر" مجرد خرافة يستخدمها الدجالون لاستغلال الباحثين عن الكنوز.


كشف الكنوز والذهب

بفضل خاصية الزئبق في الارتباط بالذهب، ظهرت أسطورة تقول إنه يجذب الذهب المدفون في باطن الأرض. وفي العالم العربي تطورت هذه الفكرة إلى حكاية الزئبق الأحمر، الذي يُزعم أنه يُستخدم في طقوس لاستحضار الجن وكشف مواقع الكنوز، رغم أن العلماء يؤكدون عدم وجوده. وتنتشر روايات عن سحرة يخلطون الزئبق مع أعشاب وبخور لهذا الغرض، لكن هذه الممارسات بلا أساس علمي، وغالبًا ما تكون وسيلة يستغلها المشعوذون لخداع الباحثين عن الثروة.

تحويل الزئبق إلى ذهب ممكن علمياً

ينتمي كل من الذهب (Au) والزئبق (Hg) إلى المجموعة 11 في الجدول الدوري للعناصر، وهي مجموعة الفلزات النفيسة التي تضم أيضاً النحاس والفضة.

لطالما حلم الخيميائيون بتحويل الزئبق إلى ذهب، وهو حلم لم يتحقق إلا جزئياً مع العلم النووي الحديث ، من الجدير بالذكر أن الذهب والزئبق عنصران متجاوران في الجدول الدوري بفرق بروترون واحد (العددي الذري للذهب 79 بينما 80 للزئبق)، لهذا  تحويل الزئبق إلى ذهب يتطلب تغيير عدد بروتوناته عبر تفاعلات نووية ، وهذا ممكن في مسرعات الجسيمات أو المفاعلات النووية، حيث يتم قذف نظائر الزئبق بجسيمات عالية الطاقة.

لكن العملية تستهلك طاقة هائلة وتنتج كميات ضئيلة جداً من الذهب، مما يجعلها غير عملية اقتصادياً ، في الطبيعة يتكون الذهب والزئبق في قلوب النجوم العملاقة عبر تفاعلات الاندماج النووي والانفجارات النجمية، مثل المستعرات العظمى  سوبرنوفا (Supernovae).

هذا يوضح أن حلم الخيميائيين القديم لم يكن خيالاً صرفاً، لكنه يتجاوز إمكانيات التكنولوجيا القديمة بملايين المرات.

وفي الختام ، يظل الزئبق معدناً يختزل صراع الإنسان مع المجهول ، فهو في نظر القدماء ماء سحرياً يجلب الخلود ويكشف الكنوز وفي العلم الحديث أصبح  رمزاً لتقدم الفيزياء النووية وفهمنا للكون، بين الأسطورة والعلم، تبقى قصة الزئبق شاهداً على شغف البشر بتجاوز حدود الطبيعة، حتى لو كان الثمن سماً قاتلاً أو لعنة مدفونة في أعماق الأرض.


ندرة الزئبق وانتاجه

يعد الزئبق من العناصر النادرة نسبياً في القشرة الأرضية، لكنه ليس من أندر المعادن مثل الذهب أو البلاتين ، تبلغ نسبته في القشرة الأرضية حوالي 0.08 جزء في المليون فقط، أي ما يعادل 80 غراماً لكل مليون طن من الصخور تقريباً ، وهو يوجد غالباً في صورة مركبات كبريتيد الزئبق (HgS) المعروفة بخام الزنجفر (Cinnabar)، وهو المصدر الرئيسي لاستخراج الزئبق، أضخم الرواسب المعروفة تاريخياً كانت في ألمايدن (Almadén) في إسبانيا، والتي أنتجت حوالي ثلث الزئبق العالمي على مدى أكثر من 2000 عام.

حالياً، يتم إنتاج الزئبق بكميات محدودة، إذ يتراوح الإنتاج العالمي السنوي بين 2000 و3000 طن فقط ، تقلص الطلب العالمي عليه بسبب خطورته البيئية والصحية، واستُبدل في العديد من الاستخدامات مثل الترمومترات والمصابيح القديمة.

رغم ندرته النسبية، فإن الزئبق ليس معدناً نفيساً مثل الذهب، لأن تكلفته منخفضة نسبياً وكان متاحاً بكميات أكبر في الماضي، سبب شهرته ليس وفرة الاحتياطيات بل خصائصه الفريدة، كونه المعدن الوحيد السائل طبيعياً، إضافة إلى دوره التاريخي في السحر والخيمياء والطب القديم.

نبذة عن كمال غزال

باحث سوري في عالم ما وراء الطبيعة (الماورائيات) من مواليد عام 1971، ومؤسس موقع ما وراء الطبيعة Paranormal Arabia، أول منصة عربية متخصصة في هذا المجال الفريد منذ عام 2008 ، أعد وترجم وبحث وأسهم في مئات المواضيع التي تنقسم إلى أكثر من 30 فئة، بين مقالات بانورامية شاملة وتحقيقات لكشف الزيف، إضافة إلى تحليلات لتجارب واقعية تلقاها من العالم العربي، ورصد أخبار مرتبطة بالماورائيات ، تعتمد منهجيته على دراسة الظواهر الغامضة من منظور أنثروبولوجي مع تحليل منظومات المعتقدات والتراث الشعبي وربطها بتفسيرات نفسية وعصبية، إلى جانب استكشاف الأساطير حول العالم ، كما ألّف قصصاً قصيرة مستوحاة مما قرأ وسمع وشاهد، ويسعى نحو أضخم موسوعة عربية عن ما وراء الطبيعة ، الظواهر الخارقة، الباراسيكولوجية، والميتافيزيقية رافعاً شعار الموقع: "عين على المجهول"، ومؤكداً مقولته: "نعم للتفكير، ولا للتكفير".

إقرأ أيضاً ...

0 تعليقات:

شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .

 
2019 Paranormal Arabia جميع الحقوق محفوظة لـ