عندما تطأ قدماك أرض غرناطة، آخر معاقل العرب في الأندلس، لا بد أن يأسرك ذلك الصرح المهيب الذي يطل من أعالي تلة السبيكة: قصر الحمراء. ليس مجرد حصن أو قصر ملكي، بل هو لوحة حية من الجمال والدموع، يختلط فيه وهج الحضارة بزفرات المأساة، وتحوم حول جدرانه حكايات ما زالت تثير رهبة كل من يقترب منها.
تحفة معمارية من زمن بني الأحمر
شُيّد قصر الحمراء منذ القرن الثالث عشر على يد السلطان محمد بن الأحمر، مؤسس الدولة النصرية، وتوالى خلفاؤه على توسعته وتزيينه حتى غدا مدينة ملكية متكاملة. في قاعاته تتماوج الزخارف العربية والكتابات القرآنية والأبيات الشعرية التي تنطق بشعار بني نصر: "ولا غالب إلا الله".
في بهو السباع وقاعة السفراء وبرج الأميرات، ترى الماء يتدفق برهافة في النوافير والبرك، وكأن المهندس الأندلسي أراد أن يجعل من الصوت والظل والضوء عناصر زينة لا تقل عن الجص والرخام.
لكن خلف هذا الجمال الباذخ، تختبئ طبقات من الدماء والخيانات التي لطخت تاريخ القصر.
مآسي ودماء في أروقة القصر
لم يكن قصر الحمراء دائماً مسرحاً للبهاء، بل شهد أحداثاً مأساوية تركت أثرها العميق. فقد اغتيل السلطان يوسف الأول وهو ساجد في صلاة العيد داخل أسوار القصر، وقبله لقي أخوه محمد الرابع المصير نفسه طعناً وغدراً.
أما أشهر القصص المأساوية، فهي مذبحة بني سراج: حيث يُقال إن السلطان دعا نبلاء العائلة إلى مأدبة، ثم أمر بقطع رؤوسهم على نافورة القاعة. سالت دماؤهم حتى قيل إن حجارتها احتفظت بلونها الأحمر إلى اليوم ، ورغم الجدل حول حقيقة القصة إلا أن الزوار لا يزالون يقفون أمام النافورة وهم يتخيلون همسات الماضي وصدى السيوف.
ثم جاءت المأساة الكبرى: سقوط غرناطة عام 1492م. حين سلّم آخر ملوك بني نصر، أبو عبد الله الصغير، مفاتيح القصر للملكين الكاثوليك. يروى أنه عند مغادرته التفت من مرتفع قريب نحو غرناطة وأجهش بالبكاء، فقالت له أمه عبارتها الخالدة: « ابكِ كالنساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه كالرجال». ومنذ ذلك الحين، صار القصر شاهداً على غروب شمس العرب عن الأندلس.
ماورائيات وأساطير قصر الحمراء
لم يكن غريباً أن يحيط الغموض بهذا القصر المهيب؛ فالمكان الذي شهد قروناً من الدماء والخيانات والحب الممنوع، لا بد أن يترك وراءه أطيافاً عالقة بين جدرانه. وعلى مرّ العصور، نسجت الذاكرة الشعبية في غرناطة أساطير جعلت من الحمراء مسرحاً لعالم آخر، تتداخل فيه الأرواح مع التاريخ.
شبح الأميرة الحزينة
في برج الأميرات تُروى مأساة إحدى بنات السلطان التي وُضعت في عزلة خوفاً من العار. أحبّت فارساً مسيحياً أسيراً، لكنها رفضت الهرب معه إرضاءً لوالدها، فذبلت روحها وماتت كمداً. منذ ذلك الحين يقال إن طيفها يظهر ليلاً قرب نافورة الأسود، جالسةً على حجر رخامي، تعزف على عودٍ شجي لا يراه أحد، وكأنها تبث حزنها في نغمات عابرة للزمن. كثير من الزوار يؤكدون سماع أنغام بعيدة تتلاشى بين هدير الماء وصمت الجدران.
أسطورة بني سراج
بين ردهات القصر، تحتفظ قاعة بني سراج بأسطورة أكثر دموية. فقد ذُبح عشرات الفرسان في مأدبة غدر، وسالت دماؤهم حتى غمرت نافورة القاعة. تقول الحكايات إن الحجارة احتفظت بلونها الأحمر، وأن الزوار أحياناً يرون خطوطاً قاتمة في قاع النافورة، لا تُمحى مهما جرى تنظيفها. البعض يقسم أنه سمع أصوات صليل سيوف وصيحات استغاثة ترتد من الجدران، كما لو أن المشهد يعاد كل ليلة في بعد آخر.
العفاريت الحارسة وكنز الحمراء
حكاية أخرى تزعم أن كنزاً هائلًا من ذهب وفضة دُفن في باطن القصر قبيل سقوط غرناطة. ومنذ ذلك الحين، يظهر جن أو عفاريت مرة كل مئة عام، في ليلة الثاني من يناير تحديداً، للتأكد مما إذا عاد القصر إلى أصحابه المسلمين. إذا لم يحدث ذلك، يعودون إلى سباتهم حتى مرور قرن جديد. البعض يقول إن مهندساً إسبانياً في القرن السادس عشر رأى هؤلاء العفاريت في حلم كشف له عن موقع جزء من الكنز، وأن الذهب الذي وجده ساهم لاحقاً في بناء قصر كارلوس الخامس المجاور.
سيدة الليل
تُعرف بين أهل غرناطة باسم “La Dama de la Noche”، امرأة مقنعة ترتدي ثوباً أبيض وتظهر في الحدائق والبوابات القديمة. يقال إنها أميرة عربية أحبّت فارساً مسيحياً أيام الحصار، فمُنعا من اللقاء وماتت كمداً. منذ ذلك الحين، شوهد طيفها يتجوّل بين الأشجار باكياً، تبحث عن حب ضاع إلى الأبد. بعض السياح يصفون رؤيتها كظل خافت تحت ضوء القمر، يختفي فجأة حين يقتربون.
الجندي المسحور
أسطورة أخرى تحكي عن جندي عربي من عهد بني نصر، حُكم عليه أن يحرس كنزاً في أعماق الحمراء. يُقال إنه يظهر كل قرن مرة، بزيه الحربي الكامل، ويطلب من من يراه أن يحرّره من اللعنة عبر شروط مستحيلة: قس مسيحي صائم وعذراء نقية ترافق من يكتشفه، حتى اليوم، لا تزال القصة تُروى بين الأدلاء السياحيين.
تجارب الزوار اليوم
لم تبقِ هذه الأساطير في الكتب فقط، بل ما زالت تلوّن تجارب السياح والباحثين.
- كثيرون أبلغوا عن وقع أقدام في أروقة فارغة.
- آخرون تحدّثوا عن همسات مبهمة في قاعة السفراء، رغم خلوّها من البشر.
- بعض الزوار وصفوا إحساساً مفاجئاً بتيار هواء بارد في غرف مغلقة بلا نوافذ.
- وهناك من رأوا ظلالاً خاطفة تتحرك عند مداخل الأبراج، لتختفي حالما يحاولون الاقتراب.
هذه التجارب، سواء أكانت إيحاءات نفسية أو وقائع غامضة، تمنح القصر هالة لا مثيل لها. في الليل، حين يهدأ المكان ولا يبقى سوى خرير النوافير، يبدو وكأن الحمراء تتنفس أسرارها وتستعيد شخوصها من عالم آخر.
الحمراء في الأدب والفن
لم يبقَ القصر في حدود التاريخ والخيال الشعبي، بل تسلل إلى الأدب العالمي، إذ أقام فيه الكاتب الأمريكي واشنطن إيرفينغ عام 1829 وجمع حكاياته الشعبية في كتابه الشهير "حكايات الحمراء"، فصار القصر رمزاً للأسطورة الشرقية في المخيلة الغربية.
في الأدب العربي، استحضر الشعراء - من نزار قباني إلى ردوى عاشور - الحمراء رمزاً للفقد والحنين، بينما جسد الفنانون الأوروبيون مذبحة بني سراج في لوحاتهم، مثل لوحة ماريانو فورتوني التي صُورت داخل بهو السباع نفسه.
قصر الحمراء ليس مجرد أثر معماري، بل هو ذاكرة حية تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة. بين جدرانه تجد بهاء الفن الإسلامي، ودموع السلاطين، وأصداء المآسي، وأشباح الماضي التي تأبى أن تغادر.
زيارة الحمراء ليست جولة سياحية فحسب؛ إنها رحلة عبر الزمن، حيث يتجاور الجمال المذهل مع الغموض الماورائي، ويصبح القصر نفسه شاهداً على أن التاريخ لا يموت… بل يظل يهمس في الأروقة.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .