في القرن الثامن عشر، وفي زمن ساد فيه العقل التجريبي والتنوير الفلسفي، برزت شخصية مثيرة للجدل هي إيمانويل سويدنبورغ (1688–1772)، المفكر والعالم السويدي الذي قلب الموازين في نظرته للواقع، كان في بداياته عالماً بارعاً في الرياضيات والفيزياء والهندسة، ونال احتراماً واسعاً في الأوساط الأكاديمية الأوروبية.
لكن ما جعله موضع جدل عالمي لم يكن إنجازاته العلمية، بل ادعاؤه التواصل المباشر مع الملائكة والأرواح، الأمر الذي أسّس عليه منظومة فكرية وروحية متكاملة.
التحول من العلم إلى الروح
بدأ سويدنبورغ مساره كباحث عقلاني في علوم الطبيعة، حيث ألّف عشرات الكتب عن الميكانيكا، وعلم المعادن، وعلم الفلك، وحتى التشريح، غير أن نقطة التحول الكبرى وقعت في منتصف عمره، حين روى أنه اختبر رؤى روحية صادقة، في عام 1744 كتب عن سلسلة من الأحلام والرؤى التي دفعته إلى الاعتقاد بأن الله اصطفاه ليكشف للناس عن أسرار العالم الروحي / منذ تلك اللحظة ترك انشغاله بالعلوم الصلبة، وأصبح تركيزه منصباً على استكشاف العلاقة بين الأرض والسماء، بين المادة والروح.
تجربته مع الأرواح
ادعى سويدنبورغ أنه كان قادراً على التجوال في "العالم الروحي" كما يتجول الإنسان في مدينة مألوفة، وصف لقاءاته مع الملائكة والشياطين، وزياراته إلى الجنة والجحيم، بل وادعى أنه تحدث مع أرواح شخصيات ماتت منذ زمن بعيد، من أشهر رواياته أنه استطاع كشف حريق اندلع في ستوكهولم عام 1759 بينما كان هو في مدينة غوتنبرغ، أي على بعد أكثر من 400 كيلومتر، وذلك من خلال "رؤية روحية مباشرة".
المنظومة الفكرية
بنى سويدنبورغ فكره على مبدأ التوافق بين العوالم: فكل ما يوجد في العالم المادي له مقابل أو رمز في العالم الروحي ، الإنسان في نظره، ليس مجرد جسد، بل كائن يعيش في توازن بين هذين المستويين. وقد أسس على هذه الرؤية مجموعة من الأفكار اللاهوتية، أبرزها:
- أن الكون منظم وفقاً لمبدأ المحبة والحكمة الإلهية.
- أن حياة الإنسان الحقيقية تبدأ بعد الموت، حيث يذهب الروح إلى عالم يتوافق مع ميوله وأعماله.
- أن الجنة والجحيم ليسا مجرد أماكن، بل حالات روحية داخلية يعيشها الكائن بعد مفارقته الجسد.
تأثيره في الغرب
رغم الهجوم الذي واجهه من بعض اللاهوتيين الذين اعتبروا أفكاره نوعاً من "الهرطقة"، إلا أن كتاباته ألهمت عدداً من المفكرين والأدباء ، تأثر به كتّاب مثل وليم بليك ورالف والدو إيمرسون، كما انبثقت من أفكاره حركة دينية تعرف بـ الكنيسة السويدنبورغية، ما تزال قائمة حتى اليوم في بعض الدول الغربية.
نقد علمي وفلسفي
ينظر الباحثون المحدثون إلى تجربة سويدنبورغ من زوايا متعددة:
- تفسير نفسي: يرى البعض أن رؤاه الروحية قد تكون نتيجة لحالات هلوسة مرتبطة باضطرابات النوم أو الجهاز العصبي.
- تفسير فلسفي: اعتبره آخرون مثالاً على محاولة التوفيق بين العقل والروح، في عصر كان يجنح إلى المادية الصارمة.
- تأثير ثقافي: بغض النظر عن صحة ادعاءاته، فإن أعماله ساهمت في بلورة صورة جديدة للروحانيات في الفكر الغربي الحديث.
كان إيمانويل سويدنبورغ حالة استثنائية في تاريخ الفكر: عالم عقلاني صار "نبياً روحياً" سواء اعتبرناه متصوفاً حقيقياً أو مفكراً ذا خيال خصب، أو مريضاً باضطراب نفسي، فإن تأثيره ظل ممتداً عبر القرون، شاهداً على التوتر الدائم بين العقل والعقيدة، وبين العلم والماورائيات.
0 تعليقات:
شارك في ساحة النقاش عبر كتابة تعليقك أدناه مع إحترام الرأي الآخر وتجنب : الخروج عن محور الموضوع ، إثارة الكراهية ضد دين أو طائفة أو عرق أو قومية أو تمييز ضد المرأة أو إهانة لرموز دينية أو لتكفير أحد المشاركين أو للنيل والإستهزاء من فكر أو شخص أحدهم أو لغاية إعلانية. إقرأ عن أخطاء التفكير لمزيد من التفاصيل .